د. ربيعة بورقبة
باحثة مغربية
موضوع الدين والفلسفة من المواضع الجديرة بالاهتمام، فعلى الرّغم من تناول الفلاسفة والمفكرين للموضوع في القدم، إلا أنَّ الحاجة ماسة اليوم لسبر أغوار القديم وفهمه، خاصّة وأنَّنا نشهد وجود طرفي نزاع بين مُمجِّد للفلسفة وحدها، وبين مُمجِّد للدين وحده والاقتصار على النص دون إعطاء مجال للعقل.
كي نسلِّط الضوء أكثر على جديّة العلاقة بين الدين والفلسفة سنتوقف في هذا المقال مع آراء الباحث محمد يوسف موسى (1899- 1963)؛ الفقيه الأصولي المصري وأحد أعلام الأزهر المجددين، الذي اشتغل على هذا الموضوع في أطروحة دكتوراه بجامعة السوربون بعنوان: "الدين والفلسفة في رأي ابن رشد وفلاسفة العصر الوسيط"، فكيف قارب محمد يوسف موسى جدليّة الدين والفلسفة عند ابن رشد وفيلون الإسكندري؟
الإحساس بالحاجة إلى التوفيق بين الدين والفلسفة أمر طبيعي يحسُّه المؤمن المفكر أو الفيلسوف، ومحاولة هذا التوفيق تعتبر إلى حد كبير واجبًا لازم الأداء، وذلك ليحقق الانسجام بين معتقده الديني العامر به قلبه، والذي يعتبره فوق كل شك.
إنَّ وجوب تقرير العلاقة بين الوحي والعقل، لا ينكره ابن رشد ولا غيره من الفلاسفة المسلمين بوجه عام؛ ولذلك نراه يصحّ في أكثر من موضع من كتاباته بأنَّ الحكماء من الفلاسفة لا يجيزون الجدل في مبادئ الشرائع. ويرون أنه لا ينبغي أن يتعرض بقول مثبِت أو مُبطِل في مبادئها العامة، وأنه يجب أن نقلّد الأنبياء والواضعين لتلك الشرائع فيما جاءوا به من مبادئ العمل وصنوف العبادات التي تؤدّي للمصلحة الخُلقية والاجتماعية.
• العلاقة بين الوحي والعقل في رأي ابن رشد
إذا رجعنا للعصر الذي عاش فيه فيلسوف قرطبة، وتمثلنا الأثر الذي أحدثه الغزالي بكتابه "تهافت الفلاسفة"، رأينا فيلسوفنا مُضطرًا لبذل غاية جهده؛ لإماتة هذا الأثر أو إضعافه على الأقل، وذلك بعملٍ له أسسه ودعائمه، يبيِّن العلاقة التي ينبغي أن تكون بين الدين والفلسفة، حتى لا يقوم بينهما عداء أو نزاع.
وقد أقبل ابن رشد على العمل الذي أحسَّ ضرورته، وخصَّص للغاية التي أراد الوصول إليها كتابيه: "فصل المقال فيما بين الشريعة والحكمة من الاتصال" و"الكشف عن مناهج الأدلّة في عقائد الملّة". ذلك فضلًا عمّا خصّصه لها أيضًا من كتابه "تهافت التهافت".
ونستطيع القول إنَّ فيلسوف الأندلس لم يعتدّ بالدين وحده دون العقل، بل حاول أن يسلك طريقًا وسطًا، وذلك ببيان أنَّ كل من الحكمة والشريعة في حاجة إلى الأخرى، وأنَّ لكل منهما ناسها وأهلها، وخلص ابن ارشد إلى المبادئ التالية:
ـ الشريعة أو الدين، توجب التفلسف.
ـ الشريعة لها معان ظاهرة للعامة، وأُخَرٌ باطنة للخاصة، ومعنى هذا وذاك وجوب التأويل أحيانًا ولبعض الطبقات من الناس.
ـ وضع قواعد خاصة بتأويل النصوص.
ـ تحديد مدى قدرة العقل، الصلة بينه وبين الوحي.
وقد انتهى ابنُ رُشد من ذلك كله إلى أنَّ الحكمة والشريعة أو الفلسفة والدين، أخُتان ارتضعتا لِبانًا واحدًا، وأنهما يتعاونان في إسعاد البشر. وفيما يلي بيان لهذه المبادئ:
• أولًا: الشريعة توجب التفلسف
بدأ ابن رشد بالتدليل على أنَّ الشريعة (القرآن والحديث) توجب النظر الفلسفي، كما تُوجب استعمال البُرهان العقلي، لمعرفة الله وموجوداته، وساق لهذا وذاك دليلًا من القرآن وهو قوله تعالى في سورة الحشر: (فَاعْتَبِرُوا يَا أوُلِي الْأبَصَارِ﴾، مبينًا أنَّ "الاعتبار" هنا ليس إلا استنباط المجهول من المعلوم، وهو القياس الفلسفي.
وإذا كان الشرع يُوجب أن نلتمس تأويل ما لا يتفق معه من النصوص، على أن يتفق هذا التأويل وقواعد اللغة العربية؛ وذلك لأنَّ من المقطوع به -كما يقول ابن رشد- أنَّ كل ما أدّى إليه البرهان وخالفه ظاهر الشرع؛ أنَّ هذا الظاهر يقبل التأويل حتى لا يصطدم الشرع والعقل، كما أنه من الجائز أن يؤدّي البرهان إلى نتائج تتفق وظواهر النصوص التي أجمع المسلمون على تأويلها، أو تتفق والمعاني الخفيّة الباطنة التي أجمعوا عل أخذها بحسب ظواهرها، وبعبارة أخرى يجوز أن يؤدي البرهان إلى مخالفة الإجماع في الأمور النظريّة، ما دام الإجماع لا يُمكن أن يتحقق بيقين من العلماء جميعًا في عصر من العصور.
• ثانيًا للشريعة ظاهر وباطن
والسبب كما يذكر ابن رشد في وجود نصوص من القرآن والحديث تتطلب التأويل لمعرفة المعاني الخفية المُرادة منها، ووجود نصوص أخرى يراد منها ما تدلّ عليه من المعاني الظاهرة، أو بعبارة أخرى، السبب في انقسام الشريعة إلى ظاهر له أهله وهم العامة وأشباههم، وباطن له أهله وهم ذوو البرهان، هو أنَّ الناس مختلفون في الفِطَر والعقول؛ ولهذا تختلف استعداداتهم وقُدَرُهم ووسائلهم إلى فهم وإدراك ما جاءت به الشريعة. وهم بسبب هذا الاختلاف والتفاوت ثلاث طوائف:
ـ الخطابيون: وهم الجمهور الغالب الذي يصدق بالأدلة الخطابية.
ـ أهل الجدل، ومنهم رجال علم الكلام: وهم الذين ارتفعوا عن العامة ولكنهم لم يصلوا لأهل البرهان اليقيني.
ـ البرهانيون: بطبعهم وبالحكمة التي أخذوا أنفسهم بها.
• ثالثًا: قانون التأويل وقواعده
ابن رشد يرى أنَّ التأويل ضروري لخير الشريعة والحكمة مها، ففي ختام كتابه "الكشف عن مناهج الأدلة" يُعنى بوضع قانون يبين به بحسب تعبيره: "ما يجوز من التأويل في الشريعة وما لا يجوز، وما جاز منه فلمن يجوز". وهذا البيان أو القانون يتلخص في أنَّ المعاني الموجودة في الشرع خمسة اصناف:
1ـ أنْ يَكُون المعنى الظَّاهر من النَّص هو المُراد حقيقة في نفس الأمر، وهذا الصنف لا يجوز تأويله مُطلقًا، بل يجب أخذه بحسب ظاهره للناس جميعًا.
2ـ أن يكون المعنى الظَّاهر للنص ليس مرادًا، بل هو مثال ورمز للمعنى المقصود حقيقة، ولكنَّه لا يُعلم أنَّه مثال، ولا لماذا اختير بذاته ليكون مثالًا ورمزًا لذاك المعنى الخفي، إلا بقياسات بعيدة مُرَكَّبة لا يوصَل إليها إلا بتعلُّم طويل وعلوم جَمَّة، لا يقدر عليها إلا الخاصة من الناس، وهذا الصِّنف لا يجوزُ أن يؤوِّله إلا الرَّاسخون في العلم، وليس لأحدهم التصريح به لسواهم.
3ـ أن يكون المعنى الظاهر مثالًا ورمزًا أيضًا لمعنى آخر خفي، ولكن من اليسير أن يُفهم أنَّه مثال ولماذا هو بذاته مثال، وهذا الصنف ليس لأحد الأخذ بظاهره، بل لا بد من تأويله، والتصريح بهذا التأويل للجميع.
4ـ أن يكون المعنى الظاهر مثالًا: ولكن يعرف بنفسه أو بعلم قريب أنه مثال، وبعلم بعيد لا تقدر عليه العامة ومن في حكمهم لماذا هو بنفسه مثال، وذلك مثل قوله صلى الله عليه وسلم: "الحجر الأسود يمين لله في الأرض"، وهذا الصنف تأويله خاص بالعلماء ويؤوِّلونه لأنفسهم خاصة، ويُقال للآخرين الذين شعروا أنه مثال، ولكن ليسوا من أهل العلم الذين يعرفون لماذا هو مثال: إنَّه من المُتشابه الذي يجبُ عدم البحث عنه، إلا للعلماء الرَّاسخين، أو ينقل لهم التمثيل لما هو أقرب إلى معارفهم ومداركهم.
5ـ وأخيرًا، أن يكون المعنى الظاهر مثالًا ورمزًا لآخر خفي، ولكن لا يتبيّن أنَّه مثال إلا بعلم بعيد، ومتى عُرِفَ أنه مثال يتبين بعلم قريب لماذا اختير بذاته ليكون مثالًا له. وهذا القسم من المُمكن أنْ نَقُول إنَّ الأحفظ للشرع ألا يُتعرَّض لتأويله، بل الأوْلى بالنِّسبة لغير العلماء أن نبطل الأمور التي من أجلها ظنوا أنَّ المعنى الظاهر من النص هو مثال لآخر خفيٌّ هو المراد منه، ولنا كذلك أن نقولَ بجواز التأويل لهؤلاء أيضًا، وذلك لقوة الشبه بين المعنى الخفي المراد وبين ما ضُرب رمزًا ومثالًا له.
وبعد هذا التفصيل؛ يذكر فيلسوف قرطبة أنَّ هذين الصنفين (الرابع والخامس) متى أبُيح التأويل فيهما تولَّدت منه اعتقادات غريبة وبعيدة عن ظاهر الشريعة، ورُبَّما فشت فأنكرها الجمهور. يُريد أن يقول إنَّ الخير في هذا هو البُعد عن التأويل. ولهذا لمّا أخذ في تأويل نصوص الشريعة مَن لم تتميَّز له هذه المواضع كالمتصوّفة ولا تميّز له الصنف من الناس الذين يجوز التأويل في حقهم، اضطرب الأمر في الدين، ووُجد بين المسلمين فِرَق يُكِّفر بعضها بعضًا، وهذا كله جهل بما قصد الشارع، وتعدٍّ على الشريعة نفسها.
هذا، ولكي نتقي أمثال هذه النتائج السيئة، وزرْعَ العداوة بين الشريعة والفلسفة يجب بصفة عامة -كما يقول ابن رشد- ألّا يصرّح بالتآويل وبخاصة البرهانية لغير أهلها، وهُم أهل البرهان، كما يجبُ ألا تثبت هذه التآويل في الكتب الخطابية والجدلية الموضوعة للعامة وأمثالهم من أهل الجدل، وإلا أدّى ذلك إلى إبطال ظواهر النصوص التي يفهمها الواحد من هاتين الفئتين، مع العجز عن إدراك التأويل البرهاني، فيضلّ ويقع في الكفر إن كان ذلك في أصول الشريعة.
• رابعًا: تحديد مدى قدرة العقل
والصلة بينه وبين الوحي
إنَّ فيلسوف الأندلس مهما أشاد بالعقل ونظره وقدرته على المعرفة، يصرِّح بأنَّ هناك أمورًا يعجز العقل عن معرفتها، وإذن فلنرجع إلى الوحي الذي جاء متممًا لعلم العقل، فإنَّ "كل ما عجز عنه العقل أفاده الله تعالى الإنسانَ من قِبَل الوحي"، ويضيف ابن رشد أنَّ الفلسفة تُعنى بتعرُّف ما يجيء به الشرع، فإن أدركته كان ذلك أتم في المعرفة، وإلا أعلنت بقصور العقل الإنساني عنه، وأنَّ هذا ممّا يدركه الشرع وحده.
فالأمور التي لا يكتفي العقل بنفسه في معرفتها تتلخص -كما يرى فيلسوف الأندلس- في معرفة الله، والسعادة والشقاء الإنساني في هذه الحياة الدنيا وفي الحياة الأخُرى أيضًا، ووسائل هذه السعادة وأسباب هذا الشقاء. وذلك بأنَّ الفلاسفة (ولعله يُريد الفلاسفة اليونان) يرون أنَّ الإنسان لا تقوم حياته وسعادته في هذا العالم وفي العالم الآخر، إلا بالفضائل النظرية التي لا يوصل إليها إلا بالفضائل الخلقية، وهذه الفضائل لا تتمكَّن في النفس إلا بمعرفة الله وتعظيمه بالعبادات المشروعة بحسب الملل المُختلفة، مثل القرابين والأدعية والصلوات، ونحو هذا وذاك ممّا لا يُعرف إلا من الشرع الموحى به.
هكذا يمكننا القول إنَّ ابن رشد ظلَّ أمينًا بخصوص وجوب تقسيم الناس إلى طبقات بحسب استعداداتهم وعقولهم، فإنَّ منهم العامة والخاصة، ويجبُ أن يكون لكل طائفة منهم تعليم خاص، وبهذا يبقى الوئام بين العقل والوحي أو بين الفلسفة والدين اللذين لكلٍّ منهما غرض خاص، ولا يصطدم أحدهما بالآخر.
وقد يدلُّ أيضًا على ما نذهب إليه من بقاء ابن رشد أمينًا لمذهبه العقلي، ما أَكَّدَه مرارًا من أنَّه يجبُ ألا يُصرح للجمهور -حرصًا على سعادته- بما يؤدي إليه النظر العقلي من العلوم التي سكت عنها الشرع. فإنَّ هذا معناه أنه فيما يختص بالعلماء، أي: طبقة الخاصة، لا يُعتبر شيء من المعاني والحقائق التي لم يصرِّح بها الشَّرع خافيًا، بل إنَّ عقولهم لتصل إلى إدراكها ومعرفتها.
وأخيرًا لعلَّ الحق هو أن نقرر أنَّ فيلسوف الأندلس لا يصح أن يوصف بأنه عقلي إزاء جميع الناس وفي كل حال، ولا بأنَّه غير عقلي كذلك، بل إنه فيما نرى غير عقلي حين يتعلق الأمر بالعامة الذين لا يطيقون النظر والأدلة البرهانية، وعقلي حين يتعلق الأمر بأهل النظر العقلي والفلسفة، وإنَّ رعاية هاتين الناحيتين هو ما جعل في كلامه ما يوهم أحيانًا بأنه رجع عن نزعته العقلية إلى ما يناقضها.
• فلاسفة العصر الوسيط والعلاقة بين الدين والفلسفة
فيلون الإسكندري:
إنَّ القارئ لِمَا كتب "فيلون الإسكندري" يحسُّ إحساسًا قويٍّا بأنَّ الشريعة والفلسفة هما المصدران لتفكيره، ولا عجب في هذا، فإنَّ الحقيقة واحدة؛ فلا تناقض نفسها وإن اختلفت صور التعبير عنها، يُريد أن يقول إنَّ ما هو حق من الفلسفة ليس إلا ما نجده في التوراة من حكمة، وإنْ لبست على أيدي الفلاسفة ثوبًا أو ثيابًا أخرى.
ويركز "فيلون" على التأويل ويراه ضروريًّا، مؤكدًا أنَّ الأنبياء تكلموا كثيرًا بالمجاز سترًا للحقيقة عن غير أهلها، إذ يكون فهم النص على حقيقته ليس مقدورًا للجميع، ما دام طريق هذا هو التأويل الذي ليس مقدورًا أو مسموحًا به للناس جميعًا.
وللتَّأويل أصول أوضحها "فيلون" وشدَّد في اتباعها، ومنها يتبين ما لكلٍّ من المعنى الحرفي والمعنى الخفي من قيمة لديه:
- إنَّه يَرَى أنَّ المعنى الحرفي يُشبه الجِسْمَ، والمعنى الخفي يُشبه الروح.
- ومع هذا ينبغي ألا نُهْمِلَ المعنى الحرفي، بل يجبُ أن نُراعي الحرف والروح معًا أو الظاهر والخفي؛ ولهذا يلوم الذين لا يُلقون بالًا لكلٍّ منهما، ويرى من الواجب العناية بهذا وبذاك، وذلك بما أنَّه من الواجب العناية بالجسم والروح معًا.
وفي الواقع إنَّ "فيلون" يجعلُ من التأويل وسيلة ضرورية يُحَقِّق بها أغراضًا لها قيمتها لديه، أو بِعِبَارة أخُرى لتتفق النصوص المُقَدَّسة مع آرائه الفلسفية: في لله، وفي خلق العالم، وفي النفس، وفي الدين بصفة عامة، الدين الذي يحرص الحِرصَ كله على أنْ يأخُذَ صفة "العالمية" لا أنْ يظلّ دينًا لطائفة خاصَّة هم بنو إسرائيل، وهكذا بالتأويل المجازي الذي اصطنعه "فيلون" يستخرج ما في التوراة من فلسفة تظهر أنَّها عارية منها لو أخذت نصوصها حرفيًّا.
إذن، يرى "فيلون" أنَّ من الضروري تأويل النصوص التي تثبت بظاهرها لله ما لا يليق به من الصفات والأحوال: كالتجسيم، والكون في مكان، والكلام بصوت وحروف، والندم، وهو في هذا يقول: الله لا يأخذه الغضب ولا يندم ولا يتكلم بحروف وأصوات، وليس له مكان خاص يَقَرُّ فيه.
وفي الختام، نشير إلى أنَّ العقل والنقل لا تناقض بينهما، إذ لولا العقل لما فهمنا المراد من النص الديني، بل إن غياب العقل يعني عدم تطبيق كثير من أحكام النص الشرعي على المكلفين، إلا أنه لا يمكن أن نقدّس العقل على حساب النص الديني مراعاة للتوفيق بين العقل والنقل. بل المسألة أكثر من ذلك، وهي أنَّ التكامل بين الشريعة والحكمة فيه يُسر وخير للعباد.