د. حسين جمعة
كاتب وناقد أردني
"زهريت" اسم جامع ركَّبه الغزوي من كلمتين "زهر" و"زيت"، وبنى على هذا التركيب قصة موحية تومئ إلى أصالة القرية وطيبة أهلها، وكرم أخلاقهم وعفّة ضمائرهم، لتكون هذه القرية النموذج الماثل لسائر القرى الأخرى التي تزخر بما يخطر ولا يخطر على بال، ففيها من ضروب وملابسات العيش ما يستثير عروق الحياة ويرفع من دقات نبض حضورها، وحيويّة وجودها ككائنات حيّة لا تهدأ ولا تخور قواها الدافعة الموّارة بشتى الطرائف والحيل والأحابيل والبدع، إلى جانب مآثر الفعل والعطاء والبساطة الفطريّة الخالصة التي تتماهى في معظم قصص المجموعة.
في عمل فنّي يربو على خمسين صورة فنيّة باذخة بأصالتها الشكليّة ومتفجِّرة في مضامينها يطلُّ فيها الأديب المدهش رمزي الغزوي، مستعينًا بذخيرة وفيرة من الحضور المعرفي العميق بأسرار القرى، وأكناه ساكنيها ومخايلهم، وأفانينهم في التعامل والمماحكات المضحكة حينًا والعابسة حينًا آخر، ليؤرِّثَ شعلةً في حمى الريف ونفوس ناسه وأهله، ويطلع الغائب عن رهافة هذا الريف، وما يمور في حناياه من دقائق ذات مغازٍ حافزةٍ على الفعل والانتقال من حالة إلى أخرى، وعلى رسيس ما يدور في خلد هؤلاء الناس ووجدانهم، وما ينبض في نفوسهم من حب وبساطة، وركون إلى فعل الخير ونقاء الضمائر.
الصورة تنبض وتشرع في امتلاك نفَسها لتغتني، ومن ثم تسعى إلى احتضان ثراء ظواهر الواقع، والإلمام بشتيت الانفعالات والنوازع الإنسانية، التي تنغل في الأعماق كظواهر تلقائيّة لا تشوبها حضارة الزمن الوليد.
إنَّها عبارة عن انطباعات لما هو مرصود ومرئي، صادرة عن تجربة حسيّة فوّاحة، تعبِّر عن جوهر الإنسان الروحي ومقدار وعيه، وحضور أفكاره وردّات فعله الذاتية، المرتبطة بمدركاته الانفعالية، وكذلك بأحاسيسه ورغباته.
وفي سبيل نيل هدفه، وبلوغ حومة مقصده استنطق الغزوي قريةً حيّةً سواء أكانت حقيقية أم متخيلة، نصب فيها فخاخه ليصطاد كل ما تنغل به القرى من مظاهر الحياة.. باطنها وظاهرها من نسج الخرافات والحكايا والألغاز الملفّعة بالأحابيل والحيل إلى تشابك الروابط بين الإنسان والمخلوقات الأخرى، ووجد أنَّ عراها لا تنفصم، لأنَّ الحاجة متبادلة بين الطرفين، إذ لا يمكن أن يستغني أحدهما عن الآخر. ويصعب على الفنان أن يسبر طبائع المخلوقات ويتعرَّف على عاداتها وما تحظى به من مواهب وقدرات لمواجهة إشكاليات عيشها وحياتها، إذا لم يكن ابن الريف الحقيقي، عاش في أكنافه، وتغلغل في أحضانه ودقق في مصادفاته وتلقائياته، وتعرّف على ما يدور في خلدها، وما يمكن أن تقوم به من أفعال وحتى حركات وإيماءات؛ وكل هذه المعرفة تسعف صاحبها على الرصد النفسي، وتحسِّن أداءه في التعامل مع الحيوان وصغائر الكائنات.
هذه الخبرات هي المرشد الأعظم للمبدع لينجز عمله بيسر وإتقان، وهي العصا السحرية التي بواسطتها يمكنه فكّ أسرار الخفاء، وحلّ الألغاز التي ترتكز على سنن الحياة الطبيعية، التي يستطيع مراقبتها ورصدها، حيث يستنجد بخبرته في وقت الشدائد وانسداد الحلول. وهذا ما تحسّسناه في "صائد الدخان"، والحصول على التبغ باستغلال الحرذون بذكاء ودهاء، وكيف احتال عليه في "عود الحرذون" واصطاده، ولعلَّ صورة "بطن الحمار" وبراعة المجبِّر تحكي مدى اطلاع الغزوي على قضايا لا يمكن أن يعرفها سوى أبناء القرى، أصحاب الموهبة الكامنة في الرصد والتعلم من تجارب الآخرين، والإفادة من خبرات المقرّبين، وطول المراقبة وتراكم المعرفة في هذه الشؤون.
"زهريت"(*) اسم جامع ركَّبه الغزوي من كلمتين "زهر" و"زيت"، وبنى على هذا التركيب قصة موحية تومئ إلى أصالة القرية وطيبة أهلها، وكرم أخلاقهم وعفّة ضمائرهم، لتكون هذه القرية النموذج الماثل لسائر القرى الأخرى.
تزخر هذه القرى بما يخطر ولا يخطر على بال، ففيها من ضروب وملابسات العيش ما يستثير عروق الحياة ويرفع من دقات نبض حضورها، وحيوية وجودها ككائنات حية لا تهدأ ولا تخور قواها الدافعة الموّارة بشتى الطرائف والحيل والأحابيل والبدع إلى جانب مآثر الفعل والعطاء والبساطة الفطرية الخالصة، التي تتماهى في معظم قصص المجموعة، مثل: "مكبّ الزيت"، "أفعى السروال"، "شرش الحياء"، واستحثاث مكامن الشجاعة والكرم والأخلاق الرفيعة في "نار نارا"، "لن يبيت سجينًا"، "تفاح منفوس"، "صخرة البسيسي"، "ودادة وسعادة"، وغيرها في الذكاء والفطنة وتدبير الأمور وحل العقد باختراع أساليب بسيطة وماكرة، لكنها سديدة ومقنعة وفي صميم الموضوع ومركز جذبه واستغراق أبعاده، ووضع حدّ للتكهنات الممكنة لجلاء الأمر وفك انغلاقه بحكمة بالغة وخفّة متناهية، كما جرى الحال في "فالق الصخرة"، "مقهى الطلقة"، و"حبل الشبابة" وسواها.
تبرز في هذه العمل الفني فرادة صاحبه وموهبته، ومقدرته على التجسُّد الحيّ، وبلوغ غايته بأسلوبه الخاص المرتكز إلى منظومة فنيّة مترابطة ومتضافرة، تقوم على وجهة نظر واضحة، ورؤية دقيقة لظواهر الواقع القائم، وتجسيدها عبر التعميم الفني، حيث تحظى على حيوات متحركة ذات صبوات في ذروة التوتر الروحي، الذي يستبيح أطياف العالم الخارجي بكل تجلّياته، بما يتناغم واندفاع المؤلف واشتداد هوسه وحماسته.
والسؤال هنا هل هذا الاستمداد يأتي جرّاء اشتباك الغزوي مع حضارة المدينة ولفظه وتنكُّره لها لابتعادها عن مثله وقيمه الريفية، واغترابه عن ثقافته التكوينية؛ التي أحدثت ما يسمى بثنائيّة العوالم، والبحث عن عالم آخر بديل لعالم المدينة؟!
لقد حفَّز الغزوي عندي استعادة المعلومات المطموسة في ذاكرة شاخت منذ زمن بعيد، وأخذت تتسلّل إلى ذهني أسماء أدوات الفلاحة وسبل العيش المتنوعة والمتشعبة بكل التفاصيل والإيحاءات الماديّة والتجسيدات الرمزيّة، والمراهنات المحفزة والمماحكات المستثيرة.
رمزي أنتَ أيقظتَ فينا ما تناثر من وعينا وآل إلى التلاشي، فلك منّي عظيم الامتنان على هداياك الفنيّة الرائعة.
- - - - - - - - - - - - - - - - - - -
(*)زهريت، منشورات وزارة الثقافة الأردنية، مكتبة الأسرة، 2021.