د. سلطان الخضور
ناقد وباحث أردني
في رواية "لم أكُن أتوقَّع" انعكست ثقافة الدكتور راشد عيسى العالية بشكل مباشر بين سطور روايته، فسجّل أهدافه بكل بساطة وثقة، وأجاد السَّرد، ونجح في عرض حلول للتساؤلات التي تدور في ذهن القارئ وهو يقلب صفحات الرّواية، ودسّ بين سطور روايته عناوين تصلح أن تكون مساقات تربويّة لتكون مدعاة للتأمُّل تسهم في تعديل سلوك الفرد وإثراء ثقافته.
لم أكُن أتوقع أن تقع بين يديّ رواية بعنوان لافت كـرواية "لم أكُن أتوقَّع" للدكتور راشد عيسى، لأني أعرف الرّجل شاعرًا متميزًا ومتحدثًا لبقًا له تجاربه الحياتيّة التي يحكيها فيستفيد من دروسها المستمعون، ولم أكن أتوقع أنَّ هذه الرّواية هي الثانية للدكتور راشد عيسى.
قرأتُ الرواية التي نشرتها وزارة الثقافة والتي اقتربت من الثمانين صفحة على جلستين، وحاولتُ كعادتي في القراءة هضم محتواها، فوجدتني أستخلص أنَّ الرّاوي قد قدّم على أوراق روايته مساقًا تربويًا خالصًا متنوّع المذاق، يصلح ليس فقط للناشئة كما خطَّ على مقدّمتها، بل للناس كافة على مختلف الأعمار ومختلف المستويات، ولو شئت تناول المواضيع التي طرحها الكاتب في روايته بالبحث والتفصيل، لخرجت بكتاب يعادل في عدد صفحاته عدد صفحات الرواية.
وحتى أكون موضوعيًّا في الكتابة، عدتُ للرواية أقلب صفحاتها لأقدّم الدليل على ما ذكرت، فوجدتني لم أستطع فكّ المقصود بالعنوان إلا بعد الانتهاء منها، لأكتشف أنَّ بطلة الرّواية المتفوّقة "دانة" هي ابنة واحد من العبيد، وأنَّ السيّدة التي كانت تعيش معها والتي كانت تناديها "سيرا" في إشارة أنها ابنة خادم أي سيريلانكية، والتي تعاني من نوبات الصَّرع لم تكن هي أمّها، بل هي ابنة سيّد أبيها حيث كان الهدف من الزواج أن يعتني أبوها بها.
أجاد الدكتور راشد عيسى السّرد، ونجح في عرض حلول للتساؤلات التي تدور في ذهن القارئ وهو يقلب صفحات الرّواية، ودسّ بين سطور روايته عناوين تصلح أن تكون مساقات تربويّة لتكون مدعاة للتأمُّل تسهم في تعديل سلوك الفرد وإثراء ثقافته.
ثقافة الكاتب العالية انعكست بشكل مباشر بين سطور روايته، فسجّل أهدافه بكل بساطة وثقة، ولا أريد في هذا المقام التعرُّض لتفاصيل الرّواية حتى أُبقي مساحة التشويق على حالها، لكني سأتعرَّض لبعض من الدروس والعبر التي وردت في الرّواية والتي أطلقتُ عليها "مساقات تربويّة" بقصد الوقوف على القيم التربويّة فيها.
فقد طرق الكاتب في تفاصيل الرّواية مسألة العبد والسيّد، وبيّن نظرة المجتمع السّلبيّة تجاه مَن يطلقون عليهم لفظ "العبيد"، فقد جاء في الرواية (ص16) في إشارة إلى اللون على لسان سمر صديقة دانة: "اسمعي.. يا أم سويد لا تتدخّلي بكلامنا"، وفي (ص63) في حديث العبد عن سيِّده أنه طرق عليه الباب عند منتصف الليل، وجلس على حافة السرير وطلب منه ألا يتكلم إلا بكلمة واحدة هي "موافق" وعرض عليه الزواج من ابنته المريضة بقصد رعايتها، فقال العبد ورأسه يكاد يلمس الأرض بانحناءته: "موافق"، وطلب منه سيِّده أن يعيش في مدينة أخرى، وأن لا يزوره قائلًا: "لا أريد لأيّ بشر أن يعرف ما بيننا"، فوافق وتزوَّج سرًّا كما أراد سيّده، فكان ممرِّضًا لابنة سيّده لا زوجًا لها.
هذا عرض يوحي بنظرة المجتمع السلبية تجاه مَن يُطلق عليهم "عبيد" دون اعتبار للإنسانية التي دعت إليها الأديان والمواثيق الدولية والتي تفيد في المجمل وجوب الحفاظ على كرامة الإنسان، دون اعتبار للّون أو الجنس أو أيّ من الإثنيات المعروفة.
وقد أوضح المؤلف في الصفحة الأولى أنَّ معايير المجتمع في الحكم على الأشخاص تعتمد المظهر والحالة الاجتماعية من فقرٍ وغنى والكيد لمن يشعرون بتفوُّقه عليهم، والأهم هو غياب البُعد الإنساني في التعامل بين الناس، وأورد على لسان بطلة الرّواية وهي تتحدث عن صديقاتها في المدرسة: "ويعيّرنني بطرق مختلفة أنني فقيرة وقبيحة، وأحياناّ أشعر بكيدهنّ منّي لأنّني متفوّقة في دراستي".
وفي الصفحة الثانية تقول "دانة" -بطلة الرّواية- وهي تتحدَّث عمّن تفترض أنها أمّها: "تتركني آكل وحدي في غرفتي وكأنني فكرة منبوذة... كانت تسكتني، فأضع في فمي حجرًا أمضغه بصبر بعيد".
وفي موقف تربوي ناجح من مديرة المدرسة عندما قرأت دانة في الطابور الصباحي قصيدة لإيليا أبي ماضي حيث صفّقت المديرة بحرارة وأثنت عليها عندما قرأت:
"والـذي نفســــه بغيـر جمــــالٍ
لا يرى في الوجود شيئًا جميلا".
فجعلتها تحبّ المدرسة وتضاعف حبّها للكتب وللّغة العربيّة تحديدًا، وهنا نلاحظ الأثر التربوي والنفسي حيث قال المؤلف على لسان بطلة الرواية: "كان موقف المديرة غيثًا وقع على كل عشبة جافة في حقل نفسي... وأصبحتُ خلال أيام قليلة مسؤولة الإذاعة المدرسيّة".
"ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل"، هذه عبارة كتبتها معلمة اللغة العربية وطلبت من الطالبات الكتابة عنها كموضوع للتعبير، تصلح أن تكون عنوانًا آخر من عناوين المساق، وعندما لاحظت "دانة" تململ الطالبات وعدم قدرتهن على التعبير، استأذنت المعلمة وحكت قصة وطلبت من زميلاتها التعليق عليها، أوردها كما هي:
(أهدى جوني صديقه جاك أرنبًا.. في الصباح وضع جاك الأرنب في قفص بابه مفتوح وترك القفص عند باب البيت المفتوح أيضًا.. عاد جاك في المساء يتفقد الأرنب فوجده متمسكًا بقضبان القفص وهو يرتجف خوفًا من الحريّة).
هذا عنوان مهم من عناوين المساقات التي تتحدث عن الأمل في المستقبل وعن الحرّيّة، إلا أنه يفيد أنَّ هذا لا ينطبق على مَن يستمرؤون العبوديّة والعيش في الأقفاص، والأجمل هو إعجاب المعلمة بالتعليقين الأخيرين وهما:
"الجبان لا تهمّه الحرّيّة" و"الحرّيّة تليق بالشجعان فقط".
وفي عنوان آخر (ص15) جعل الكاتب بطلة روايته تعدل من سلوك صديقاتها في كتابة الرسائل على الهاتف المحمول، حيث لم تعجبها رسائلهن "بليز أنتي مستعجلة ليه.. ألْتلك حاجي يعني مش حتأخر.."، هذه نماذج جعلت "دانة" تخاطب صديقاتها قائلة: "أرجو منكنّ أنْ تكتبن باللغة الفصيحة الميسّرة.. فاللغة العربية أمانة في أعناقكن". وقد ظهرت ثمرة هذا التعديل (ص26) عندما تلقّت من صديقاتها ست رسائل بالفصيحة، إضافة لما ورد في الصفحة نفسها بصيغة تحذير فكانت الجملة التالية: "أبارك لكِ بالهاتف، لكن احرصي ألا تضعيه جانب رأسك عندما تنامين فالذبذبات الإلكترونية تؤذي الدماغ". وهذه نصيحة علميّة تستحق التأمل والأخذ بما جاء بها، عدا عن الحرص على اللغة العربية التي باتت لدى الكثير من الأجيال الحالية في مهبّ الريح، وقد باتت مستهجنة عندما يسمعونها من النخب الثقافيّة وأهل الأدب.
وقد بيّن الرّاوي في العنوان التالي على لسان البطلة أيضًا حين قالت: "إذن من أسباب ضعف الطلبة في اللغة العربية قلة دافعية المعلم أو المعلمة"(ص18). هذا يشير إلى أهميّة المعلم/ة كعنصر أساس في العملية التربوية والتعلميّة يضاف للإدارة والمنهاج والتشريعات وأولياء الأمور.
وفي الصفحة ذاتها يقرِّر الكاتب أنَّ مبدأ الحنيّة مقرون بالأمومة، حيث عرض مشهدًا مثيرًا للبطلة عندما دخلت على مديرتها لتخبرها عن مسابقة القصة حين قالت: "قامت من خلف مكتبها -وهذا من سلوكات الكبار- قابلتني بسرور وحنان وهي تقول: تفضلي طلباتك كلها مستجابة.. اطلبي.. فاندفعتُ لأقبِّل يدها.. فرفضت.. فقلت لها من غير وعي: هل أنتِ أمي؟"، فهمست المديرة: "نعم أمك الثانية والثالثة والرابعة" بالإضافة لإهدائها لي مجموعة من الكتب الثمينة"، فكأني بالكاتب يريد القول إنَّ الأمومة ليست بالولادة بقدر ما هي بالعطف والحنان والتفاهم والقدرة على التواصل الإيجابي، فهذا المشهد يقف أمام مشهد آخر على الصفحة التالية مع مَن كانت تفترض أنها أمها، حيث وضعت كتبها في كيسين وأرادت أن تلقي بهما في الحاوية فخاطبتها قائلة: "هيّا ساعدي الخادمة في إخراج الكيسين من البوابة أو انقلعي من البيت" ثم شدّتني من يدي.. وكادت تصفعني، وراحت "دانة" تسمع اعتذار كل ما في غرفتها من جماد- الرف والخزانة والطاولة والسرير والوسادة عن هذا التصرُّف المشين، فحتى الجماد يخجل من رمي الكتب في الحاوية، وما هذه الاعتذارات إلا لاستنكار هذا السلوك وهذه العداوة للثقافة التي تظهر من بعض الناس.
أمّا العنوان التالي من عناوين المساق، فقد جاء فيه على لسان "دانة" أيضًا: "ليس بالضرورة أن يكون العبقري ابن أسرة غنيّة.. العبقرية موهبة خاصة يضعها الله فيمن يشاء" جاء ذلك في تناص مع قول المتنبي (أورده الرّاوي ص24):
"ما بقومي شرفت بل شرفوا بي
وبنفســــي فخـرت لا بجـدودي".
فمن المعروف أن لا علاقة بين الغنى والفقر والعبقرية، بل أجيز لنفسي هنا القول إنَّ العباقرة والمتفوقين من الفقراء أكثر عددًا من الأغنياء.
سبعة من العناوين وردت متتالية ومرقّمة (ص27-28) وهي العبارات الأجمل التي وردت من الطالبات المشاركات استجابة لاقتراح من بطلة الرّواية في فنّ كتابة العبارة القصيرة، يصلح كل منها عنوانًا لجلسة عصف ذهني يستنهض الأفكار لدى الطلبة على مختلف مستوياتهم، أوردُها كما هي:
1- الاعتذار ممحاة الضغينة.
2- لسانك صورة قلبك ومرآة عقلك. هكذا قال الصمت.
3- لأنَّ سمعي ثقيل فلا أسمع إلّا ضجيج الفراشة.
4- ليت المدرِّسات والمدرِّسين يدركون أنَّ التعليم طريقة تفكير وليست معلومة.
5- يدا أمي تضعهما على شعري.. (سشوار) حنون.
6- لا تراهني على رجل في أيام الحب بل بعد الزواج.
7- مشكلة الوردة أنها لا تعاتب قاطفها.
عناوين تستحق التفكير التأمُّلي الذي يفيض إلى نقاش، لأنَّ كل شخص لديه تجاربه الخاصة التي من الممكن أن يستحضرها في كل مجال من هذه المجالات التي تشكل فضاءً رحبًا يتسع لكل ما يمكن أن يُقال فيه.
بعض الرجال لا يستوصون بالنساء خيرًا، هذه جملة وردت على هامش حديث "دانة" عمّن اعتقدت أنها أمها لتبرِّر لها سلوكاتها التي ظنّت أنها جاءت كردة فعل على غياب أبيها المتكرر والطويل والمستمر، وهي دعوة لكل رجل أن يحرص على توثيق علاقته بزوجته، وغير ذلك يجب الخروج من غابة الهَمّ والغمّ وليسير كل منهما إلى سبيله على طريقة "إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان".
وفي سياق آخر يسوق إلى ذات المساق، ذكر الكاتب مهارات الاتصال الأربع بقصد تعليمها (القراءة والكتابة والتحدث والاستماع)، وهنا تمنيت أن تكون مرتَّبة بحسب المنطق اللغوي حيث تكون (الاستماع والمحادثة والقراءة والكتابة)، جاء ذلك في معرض الحديث عن شعور معلمة اللغة العربية بالتقصير في تطوير هذه المهارات، إضافة إلى خوفها من المبادرات، كل ذلك بسبب دراستها للغة العربيّة دون رغبة، لأنها لم تستطع أن تنال التخصص الذي تريد كما ذكرت الرواية (ص32)، وفي ذلك حث مباشر على حريّة الاختيار وعدم الضغط على الطلبة لدراسة تخصصات لا يرغبون بها، والنتيجة حتمية أنَّ الإبداع يجب أن يتوافق مع الرغبة.
وعلى (ص33) قرأتُ نقدًا مباشرًا للمناهج التي تقدِّم المعلومة، لكنها لا تعلِّم الطلبة مهارات الحياة وفن بناء الشخصيّة وتحقيق الأهداف، وقلّما تلتفت إلى قيم التسامح والمحبة واحترام الرأي الآخر وفن الحوار وتشجيع المواهب. كل نقطة ممّا ذكر تستحق أن تكون عنوانًا لحلقة نقاشيّة، لأنَّ كل منها مبدأ أساس من مبادئ بناء الشخصيّة، وكل ما ذكر جاء على لسان "دانة" لمديرتها عندما قابلتها لتكون هناك مرونة في تدريس المواد وعدم التمترس خلف المعلومة التي يقدِّمها الكتاب، فاللامنهجية تكشف عن مكامن الإبداع وتصقل الشخصية وتسهم بالتالي في خلق قيادات مجتمعيّة منتجة.
وأحسن الراوي عرض بعض من الهمّ العربي بطريقة تربويّة صحيحة لمّا جعل البطلة تكتب البيتين التاليين وتخضعهما للنقاش في الصف، ليظهر أنَّ الطالبات انقسمن بين مَن تغلِّب الهمّ الفردي على الهمّ القومي ومنهنّ مَن رأت العكس؛ فكان الهمّ الوطني هو الأهمّ، والبيتين لشاعرين مختلفين(ص34):
يقولون ليلى في العراق مريضة
فيا ليتنـي كنـتُ الطبيب المداويا
والثاني قال:
يقولون ليلى في العراق مريضة
فقلت لهـــم كـل العراق مريـض
وقد كشف الجدال الذي دار بين الفريقين من الطالبات كنموذج معبِّر عن مشروعيّة الاختلاف وحتميّة اختلاف الرُّؤى في المجتمع، وإن كنتُ أميل إلى المجموعة التي كانت مع البيت الثاني لأنَّ مصلحة الفرد يجب أن تذوب في مصلحة الجماعة ولا يجوز أن تقدّم عليها، أميل أيضًا إلى أنَّ الشاعر المعاصر الذي كتب البيت الثاني هو ذاته كاتب الرِّواية.
يطرح الدكتور راشد على (ص35) موضوع فنّ الإلقاء كواحد من فنون القيادة، ويظهر هذا في الفقرة التالية "الإلقاء الجيِّد المعبِّر عن المعاني يجذب الانتباه فيجعل الفهم متاحًا، وممتعًا. وهو يُكسب صاحبه شخصيّة واثقة من نفسها قادرة على الإقناع والتأثير، الإلقاء فنّ إدارة أصوات الكلمات وحروفها بأسلوب رشيق ساحر، لا شيء كالإلقاء يزيل التردُّد والتلعثم والكآبة ويقوّم اللسان ويشرح الأحاسيس"، ولا أرى أنَّ هذه الفقرة تحتاج إلى تعليق، غير أني أضع خطًا تحت كل من الكلمات التاليات: (فن، القيادة، المعبِّر، يجذب، الفهم، متاحًا، ممتعًا، واثقة، قادرة، الإقناع، التأثير، إدارة، أسلوب، رشيق، يزيل، التردد، التلعثم، يقوم، اللسان، الأحاسيس.
وتعرض الرِّواية (ص38) مسألة أخرى وهي قراءة الفرد من خلال السلوك، وهذه الحاسة تشبه الحاسة السادسة وهي حاسة الحدس، يظهر ذلك على لسان بطلة الرّواية وهي تتحدث عن أبيها حين قالت: "أشعر أنك مغلوب على أمرك أو أنَّ بينك وبين أمي خطًا ما.. يا أبي الهارب.. يا أبي الغامض المتردِّد"، فقد قرأَتْ الخطأ بل الخلل في العلاقة بين أبيها وزوجته من خلال سلوكه فوصفته بالهارب بدل المسافر، والغامض المتردِّد من خلال سلوكه مع زوجته وسلوك زوجته معه ومعها أيضًا.
إضافة إلى العِبَر التي ساقتها الرّواية على الصفحة نفسها وهي تتحدث عن الأشجار والنباتات، فالجوريّة لم تكره الحجر الرابض عليها، بل تحايلت عليه وخرجت من تحت إبطه لتؤنسه.. إنها لا تعرف الحقد.. لأنها تحب الحياة، وفسيلتا النخلة ناهضتان كأنهما طفلتان، وحبّة الرمّان شاهقة كأنها مصباح، والشوكة والطبيعة أطاحت بـِ"دانة" حين أرادت قطفها، كأنها تدافع عن الرمانة، والدودة داخل حبة الرمّان من حقها أن تبحث عن رزقها. هذه معانٍ انتقاها الكاتب من النباتات والأشجار وحاول سحبها على البشر.
أمّا العنوان التالي فهو عن الخير والشر الكامن في البشر (ص41-42)، تقول "دانة": "العجوز الداهية التي تعرف أسرار الحارة وتقوم بدور المرشدة حينًا ومخرِّبة البيوت حينًا آخر هي الآن مع أمي، أطرقت أذني وسمعتها تقول: (روحي عند القاضي.. إخلعيه.. الذهب والمال ما بنفعك...)، لم أتمكّن من سماع رأي أمي، خجلتُ ممّا فعلت فتسلّلتُ إلى غرفتي". هذا عنوان يقودنا إلى التساؤل هل من الناس مَن هو مجبول بالخير أو بالشر؟ وهل هناك مَن هو مجبول بكليهما؟ ثم هل يجب احترام خصوصية الغير عندما يتعلق الأمر بمن يخترق خصوصيّته؟ أجزم أنَّ المؤلف سمح باختراق الخصوصيّة لأنَّ هناك لغزًا محيّرًا، يريد المخترق أن يمسك بخيط من خيوطه ساعيًا للوصول إلى الحقيقة التي غُيِّبت عنه لسنوات طويلة.
وما أجمل أن يتقيَّد أحدنا بآداب الحوار التي لخّصها الرّاوي (ص44-45) على لسان إحدى المعلمات، وهذه أيضًا تصلح لجلسة عصف ذهني ممتعة للطلبة على مختلف مستوياتهم، ليتبادل المشاركون من خلالها آراءهم وتجاربهم التي ستثري الجلسة وتكون فرصة لتبادل الخبرات. أعرضها كما وردت:
- حُسن الاستماع إلى الآخر وتجنُّب مقاطعته حتى يكمل حديثه.
- استخدام الجمل القصيرة واضحة المعنى.
- التحدُّث بصوت مسموع ملائم للمكان.
- تقبُّل الرأي الآخر وعدم السخرية منه.
- النظر إلى المتكلم باهتمام واحترام.
لقد أراد الدكتور راشد من خلال الرّواية أن يعلِّم طرق الحوار لمن لا يجيد هذه الطرق، لأنَّ مجتمعاتنا العربية تغصّ بالكثيرين الذين يتخذون من الصراخ والفوضى أسلوبًا؛ وخاصة الذين يتحدّثون بقصد الحديث ويحاورون بلا هدف.
وفي السياق ذاته وعلى (ص44-45)، لخَّص الراوي فوائد قراءة النصوص الأدبية الجيدة بقصد التعليم والحث والبحث عمّا هو مفيد، أجمَلَها بأنَّها تنشِّط المدارك والذهن، وتقدِّم خبرات حياتية مختلفة، وتنمّي الثروة اللغوية، وتجدِّد طرق البوح والتعبير عن الأفكار والأحاسيس، وتزيد المعرفة بأسرار النفوس، وتثير البهجة في الوجدان، وتعلّم التفكير المبدع، وهي بالتالي تصقل الشخصيّة وتطوِّر موقفها من الحياة.
وقدَّم الراوي على الصفحة 49 صفات المدير القائد حين وصف المديرة، محاولًا توضيح الفرق بين مَن يكتفي بالإدارة وبين مَن يجيد من خلالها فنّ القيادة فيتمكّن ويمكِّن ويقود إلى النجاح، ويتعامل بروح القانون لا بحرفيّة نصّه، فهي -بحسب الرواية- حكيمة، رؤوم، مؤثرة، متواضعة، مقنعة، هادئة، مرنة، تحترم القوانين وتطوِّعها لصالح العمل، كل هذه الصفات لا تتفق مع صفات المدير الذي يتمترس خلف القوانين ويسير خلف موظفيه لا أمامهم ولا يدرك معنى التمكين الإداري.
ومن خلال قصة قصيرة (ص51-53) كتبتها بطلة الرواية، يتعرَّض المؤلف لبعض من مآلات الفقر المدقع ونتاجاته ومؤشراته، التي تجبر بعضًا من الفقراء على بيع أحد أعضائه، أو البحث في مكب النفايات، لا من أجله هو، بل من أجل مَن يعيل، وهذا لعمري درس في الإيثار قلَّ نظيره. فقد ورد في القصة أنَّ أحدًا باع شبكيّة عينه من أجل دار يقطنها، وآخر باع وحدتين من دمه مقابل قسط للمدرسة التي تدرس فيها ابنته، والثالث باع واحدة من كليتيه ليعالج بثمنها أمه، والرابع يبحث في النفايات، ويعرض رجله للدَّهس، لعله يحصل على درّاجة مستعملة لصغيره، ولمّا سأله ابنه أين قدمك الثانية، أنزل الدرّاجة عن كتفه وقال بسعادة: (هذه هي قدمي، العب بها كما تشاء يا ولدي).
وثمرة العمل جاءت في (ص54) على شكل إعجاب المشرفين التربويين، وأنَّ الوزارة قرَّرت أن تبني مسرحًا كبيرًا في المدرسة والتبرُّع بألف كتاب أدبي بالإضافة لمئة كتاب من الأدب المترجم، وأدخلت البهجة في قلوب كل مَن في المدرسة، وتبرَّع أخو مديرة المدرسة الجديدة بجوائز عينيّة عديدة للطالبات، بالإضافة لفوز الطالبة "دانة" بالجائزة الأولى في مسابقة القصة، فلكلّ مجتهد نصيب.
وقد نجح الكاتب في حلحلة عقد الرّواية وقدَّمه على ما تبقى من صفحات، فـ"دانة راضي مزيود الفضلي" تتلقى اتصالًا من المكتب الوطني للمحاماة، وتعلم أنَّ أباها كان قد أودع لها رسالة تشير أنه من شذّاذ الآفاق الطرقيين المشتتين في فضاء الله خلف ستر الحال ونصف الرغيف، وتحصل على نصف حصتها من تركة أبيها لأنها دون الثامنة عشرة، اشترت بيتًا جعلت الطابق الثاني منه "مركز دانة للمواهب الجديدة" وبلغ عدد صديقات المركز مئتين وثلاثين صديقة، وصار لكلٍّ مكتبة منزليّة خاصة.
أترك الحلول على الصفحات الباقيات، لعلَّ المتلقي الكريم يبحث عن الحلّ ويقلّب صفحات الرّواية.