وليد سليمان
كاتب أردني
في عمّان وقبل السبعينات من القرن الماضي كان شارع سقف السّيل المعروف بـِ"شارع قريش" مكشوفًا، تجرى فيه مياه سيل عمّان الشهير وكأنه نهر صغير. نقرأ في هذا المقال جانبًا من ذكريات الكاتب في ستينات القرن الماضي، حين كانت تلك المنطقة تعجّ بالنشاط الاجتماعي والاقتصادي لأهل عمّان، لكنَّ معالم السّيل القديمة تلك اختفت كليًّا بعدما غُطِّي وسُقف بشارع إسمنتي طويل ظهرت فيه العديد من المحلّات والعمران والمصالح التجاريّة والخدميّة الجديدة.
يمكن تحديد هذه المنطقة "سقف السيل" من عند جسر المهاجرين حتى الوصول إلى مكتبة الأمانة أو المدرَّج الروماني.. والآن يشتهر هذا الشارع بأرصفته العريضة المسقوفة وبأقواس محلاته التجارية ذات الطابع الشرقي التراثي.
وحول هذا الجزء وجانبيه من سيل عمّان تأخذنا الذكريات إلى الماضي البسيط والأليف منذ بداية الستينات؛ إذْ كان يعجّ بالنشاط والحيوية والتواصل الاجتماعي والاقتصادي لأهل عمّان.
وكان هناك في تلك الفترة القديمة رصيف شبه دائري يربط ما بين أول شارع الطلياني وأول شارع الملك طلال.. وفي منتصف هذا الرصيف كان هناك سورانِ قصيران نقف نحن الشباب الصغار عندهما ونضع سواعدنا عليهما لننظر للأسفل حيث سيل عمّان.
أمَّا المكان الذي كنّا نقف عليه فقد كان "جسر المهاجرين" الذي تسير عليه السيارات، ويربط ما بين أول شارع طلال مع بداية شارعي رأس العين وشارع المصدار.
كُنَّا نقف مليًّا ننظر إلى هذا السيل المتدفِّع والهائج بمياهه الطينيّة اللون في فصل الشتاء.. والصافية اللون في الفصول الأخرى.
ومن حول هذا الجسر كان يقع "مخفر شرطة المهاجرين" ثم بعض المطاعم والمحلات وفرن خبز المشروح (والذي ما زال موجودًا حتى هذه اللحظة).
وكذلك تلك المكتبة الشعبية الشهيرة قديمًا "مكتبة فوزي الحكيم" حيث كان لديه كل ما يخص الشباب والشابات والطلاب والطالبات من الإكسسوارات المتنوِّعة وكلف الخياطة والمكياج والكتب والمجلات والقرطاسية المدرسية.
وفي بعض الأيام كان أخي الأكبر يطلب منّي شراء صحيفة "الدفاع" الأردنية من "مكتبة فوزي الحكيم"؛ وأذكر أنَّ ثمنها كان قرشًا ونصف القرش.. وفي بعض الأحيان كنتُ أشتري له مجلة "العربي" الكويتية.
لكن قبل ذلك أو في الفترة نفسها كُنّا أنا وأخي وأختي نتشارك في أحيان عديدة بشراء مجلة "سمير" المصرية للأطفال، والتي كان ثمنها (45) فلسًا أردنيًا لنقرأها بالدَّوْر بشغف شديد.
وخلف "مكتبة فوزي" كانت هناك مطبعة شعبيّة قرب السيل تطبع بعض الكتب ومنها كتب الأناشيد المدرسية.. ونذهب إليها لشراء كتب الهداية (تفسير لكلمات وسور القرآن)، وكان هذا مطلوبًا منّا مدرسيًّا وبشكل جادّ لا تهاون فيه.
وكانت هناك عدّة دخلات وممرّات وأدراج صغيرة تؤدّي إلى جانبي السيل وما حوله، وهذه الطرق تربط وتصل منطقة السيل الواسعة بشوارع "طلال" و"الطلياني" و"الجوفة" و"الهاشمي".
ومن أحد هذه الطرق الفرعيّة نذكر الطريق الصغير الذي كان يوجد قرب "مطعم الهنيني" و"سينما دنيا".. حيث كان هناك رجل كبير السن سمين يفرش على الرصيف المُطلّ على السيل قطعة من القماش (منديلًا) وعليه رمل أشبه برمل صويلح.. حيث يتعامل بفتح الطالع والأسرار والأحوال، وكان يأخذ أجره حوالي ربع دينار مِن المَهموم ومَن لديه مشكلة لا يعرف حلّها، فيلجأ إليه، وربَّما يدفع نقودًا أكثر.
وأذكر ذات مرَّة أنه قرأ لي طالعي وبَخْتي وقال لي أشياء قريبة من الواقع.
وظلَّ هذا العجوز فتّاح الطّالع والبخت سنوات طويلة يفرش منديله الرَّمليّ الذي كان يحرِّكه بأصابعه ثم يأخذ بسرد الأشياء لزبائنه المقرفصين باهتمام شديد بجانبه.. وذلك حتى بداية السبعينات من القرن الماضي تقريبًا.
وعند اجتياز هذه الدَّخلة نحو فضاء وضفّة السيل كنّا نجد العديد من المعرَّشات والأكواخ القماشيّة ثم التَنَكيّة التي تخصّصت ببيع ملابس "البالة" المعروفة برخص أثمانها.. ومن خلفها على ضفة شارع الطلياني حيث كانت وما زالت أقدم كنائس عمّان، "كنيسة المخلص الأرثوذكسية" التي تقع في هذا المكان المنخفض والذي صار سقف السيل الحديث يجعلها تبدو كذلك.
ومقابل الكنيسة على ضفة السيل الأخرى القريبة من سوق الخضار كانت الحياة تدبّ فيها أكثر من أيّ منطقة أخرى في قاع المدينة.. فهناك كانت تُعرض وتُباع جميع الأشياء المنزليّة التي تخطر ولا تخطر على البال من الأثاث والأدوات المُستعمَلة.. وكان هناك حلّاقو الهواء الطّلق؛ حيث يجلس الشخص على كرسي قشّ صغير أو تَنَكة أو حجر؛ والحلّاق يحلق لهذا الشخص شعره أو ذقنه بمبلغ قروش قليلة جدًا قد تصل إلى خمسة قروش.
وإذا تعدَّينا سوق الخضار والذي كانت له تسوية طابق أرضي بجانب السيل، فإنَّنا سنلاحظ جسرًا علويًّا معلقًا فوق عرض السيل وهو "جسر الحمام" الشهير والذي كان يصل ما بين سينما الحمراء ومدخل وادي سرور.. وقيل قديمًا إنَّ هذا الجسر كان جسرًا حديديًّا ضيّقًا للمُشاة فقط، لكنه استُبدل بجسر الحمام الإسمنتي والذي يتَّسع لمرور السيارات.. وتحت الجسر كان يُقام سوق أسبوعي للحلال لبيع وشراء الأغنام والأبقار والجِمال والحمير...إلخ.
ومن الذاكرة... فإننا بالمسير بمحاذاة هذا السَّيل المكشوف سنصل إلى منطقة سرفيس جبل الجوفة والتي كان حولها عدَّة نبعات ماء؛ يتجمَّع الناس فيها للشُّرب والاغتسال ونقل الماء إلى البيوت ولتشرب منها الدّواب مثلًا.
وعند سبيل الحوريّات كانت هناك بقايا قنطرة رومانيّة "جسر حجري" مقوَّس الشَّكل رومانيّ الطراز يسير عليه بعض الناس لاجتياز هذا السيل.. وبالقرب منه مصنع "كازوز سحويل" القريب من السيل ومصانع ومعامل أخرى.
وكانت تلك المنطقة في أعياد الفطر والأضحى تمتلئ بالأراجيح للأطفال وبالناس وباعة الحلويّات والشراب والموالح ومواد أخرى.. حيث تجمُّعات مفرحة هنا وهناك حول ضفاف هذا السيل الذي يشبه النهر؛ فكانت بعض الجوانب من ضفافه مزروعة بالخضار ضمن بساتينه العديدة، وتحفّ بها الأشجار العالية الجميلة.
مشاهد هذا النهر الصغير الرَّقراق وهو "سيل عمّان" اختفت كليًّا بعدما غُطِّي وسُقف بشارع إسمنتي طويل.. وبذلك فقد حُرم الأولاد والشباب من السباحة فيه ومن صيد الأسماك ومن لعب كرة القدم على ضفافه الواسعة في بعض أماكنه هنا وهناك.. فقد كانت كرة القدم من أشهر التسالي لشباب عمّان إنْ لم تكُن هي التسلية الوحيدة قبل انتشار السينمات في عمّان.
وفي وقتنا الحاضر فإنَّ شارع سقف السيل ظهرت فيه العديد من المحلّات والعمران والمصالح التجارية والخدمية الجديدة، ومنها مثلًا: "مطعم أبو موسى للكرشات والأطراف"، ومحلات بيع الأثاث الجديد والمستعمل، وباعة الأنتيكا القديمة الذين يفرِشون بضائعهم الزهيدة أرضًا في المساء وأيام الجمعة، وكذلك انتشار محلات بيع الأجهزة الكهربائيّة الجديدة..
كما ظهرت السينمات: "سينما غرناطة" التي أزيلت نهائيًّا، وكذلك "سينما ريفولي" التي اختفت، و"حمّام الهناء" بجانبها.
وفي تلك المنطقة الآن عدّة بنوك شهيرة تمَّ افتتاحها في شارع الأقواس الجميلة... وفي وقتنا الحاضر نشاهد في ذلك الشارع محلات التحف والبازارات وباعة البسطات ومصلِّحي الأحذية وبعض أكشاك الكتب والمجلات والمكتبات ومن أشهرها "مكتبة دنديس"، و"كشك سمور للصحف والكتب"، وبعض المقاهي الشعبيّة، وباعة السَّكاكر والحلقوم القديم (الرّاحة)... وبعض الفنادق القديمة ومن أشهرها "فندق صلاح الدين".. وبعض استوديوهات التصوير الفوتوغرافي، وأعرق المحلات القديمة ببيع شراب السوس والخرّوب والتمر الهندي والقشطة بالعسل كمحلّ (أبو علي المصري).. ثم باعة "السيديهات" وهواتف الخلويات الجديدة والمستعملة في المحلات والبسطات.
أخيرًا، لا ننسى هذا التجمُّع الأسبوعي والعفوي الذي يحدث نهار كل يوم جمعة في الشوارع والدخلات الخلفيّة لشارع سقف السيل؛ حيث انتشار عشرات المحلات والبسطات الخاصة ببيع ملابس البالة والأحذية الأجنبية.
وفي يوم الجمعة أيضًا وفي دخلة جانبيّة لهذا الشارع (شارع خلفي قصير تحت سفح جبل الجوفة) يُقام "سوق الطيور الأسبوعي" حيث يمارس فيه الهواة عمليات بيع وشراء وتبادل الطيور والحيوانات من عصافير وحمام وكلاب وقطط وهامستر وأرانب... مع معروضات أقفاص هذه الحيوانات وأغذيتها وأدواتها الخاصة.