د. بسمة منصور
أكاديمية تونسية
ليس اللّون مجرَّد تقنية فنيّة يوظّفها الفنّان في أعماله التشكيليّة، بل هو أداة تعبير حسّي ومادي، يطرح بحضوره وغيابه إشكاليّات واقعيّة وفنيّة، وفي المقابل قد لا يكون وراء كل حضور للّون تأويل ودلالة، بل قد يمتنع في بعض التجارب الفنيّة عن القراءة ليكون مجرَّد حضور لا غير. ومن خلال هذه الدراسة تحاول الكاتبة تتبُّع خطى الحضور اللّوني في بعض التجارب التشكيليّة التونسيّة، كما تحاول تقديم إجابة عن الأسئلة: أين يختلف الموضوع فيختلف المعنى الدلالي والرمزي للّون ذاته؟ أين يطغى "المخزون الثقافي اللّوني" على حريّة الفنّان؟ أين يفرض الواقعُ اللّونَ على الفنّان؟ وبغياب اللّون أين تكون القراءة اللّونيّة؟
إنَّ مسألة حضور اللون في العمل الفني المعاصر تدفعنا لطرح إشكاليّة الحرية والعبودية اللونية على الفعل الفني، فعل نترجمه بمدى استيلاء المعاني المتداولة على فكر الفنان، وفي الوقت ذاته مدى بحثه ليتحرَّر من هذه العبودية لإنشاء قراءة حديثة تتماشى مع التغيُّرات الفنيّة.
فنحن إذن أمام أداة يستدعي حضورها وغيابها في العمل التشكيلي ضرورة الرجوع إلى عوامل استحضاره من إطار زماني ومكاني، لأنَّ الفنان؛ هنا؛ يسعى إلى تقديم صورة لإرضاء المتلقي أو لإرضاء أفكاره متحديًا الإملاءات الخارجية المحيطة به، التي تنعكس بصفة مباشرة أو غير مباشرة في تكوين الأثر، وهو انعكاس يتطلب لمعرفة معانيه ودلالاته اللجوء إلى عدة مباحث مثل علم النفس، علم الاجتماع، الفلسفة والأدب... لجوء يعلن من خلاله ضرورة استدعاء هذه المباحث لمعرفة أسراره ودواعي توظيفه ورمزيّة كل لون...
لذلك، سيسلط المقال الضوء على عديد الأسباب والنظريات التي تتخفّى وراء حضوره، والمعاني التي قد يفنّدها اللون أو يؤكّدها.. ولتأكيد هذا القول ارتأينا الاتكاء على جملة من النماذج التشكيلية شدَّنا حضور اللون وغيابه فيها، مثل تجربة زبير التركي، عادل مقديش، إبراهيم العزابي، عائشة الفيلالي... وعلى هذا الأساس يتفرَّع النص إلى عنصرين أساسين وهما:
1- براءة اللون من كل تأويل.
2- الإضمار والإظهار اللوني.
يطرح اللون بحضوره وغيابه السؤال ويستدعي البحث، فجزء من المعاني التأويلية للصورة مرتبطة به، ولهذا فمعرفة موضوع العمل ومدى تأثيره في المُشاهد لا تقتصر على الشكل، فقد يضاعف أسلوب توزيع الكتل اللونيّة واختيار الألوان وتفضيل لون على آخر الجانب التعبيري للمشهد، خاصة إذا ما تحدَّثنا عن مواضيع حربيّة أو ثوريّة تحمل صور العنف والألم... ففي مثل هذه المشاهد تتوزع دلالاته بين ثنائية: الأمل والألم، الرائع والمريع، التراجيدي والكوميدي... معانٍ نتقصّى دلالاتها انطلاقًا من القاموس الاجتماعي والنفسي الذي كثيرًا ما يطغى بأسلوب غير مباشر ومباشر على مثل هذه المواضيع، ويعود ذلك إلى انفتاح الفنّان على محيطه واقتناصه المعاني المتداولة والمألوفة للمتلقي. وأمام هذا التقصي فقد تعلن التجربة التشكيلية عزوفها عن المألوف، متحدية لكل ماهو متداول وبسيط لتقدم قراءة مخالفة أو ترفض التأويل، لتقرّ براءة اللون من كل تهم الدلالات، وأنَّ اللون لأجل اللون، أو قد يكون اللون لأجل محاكاة النموذج. ولعلنا ندرك ذلك من خلال المواضيع الحكائية والفلكلورية التي تعمل على تقليد الواقع مثل تجربة زبير التركي وعلي الزنايدي...
• أولًا: براءة اللون من كل تأويل
تحمل التجارب التشكيلية التونسية بين طياتها مواضيع فنيّة تزخر بالألوان والكتل اللونية، والغريب أنها توصلنا إلى قراءتها وتحليلها دون أن نبحث في اللون ودلالاته، أعمال تقرّ بحضوره وغيابه الرمزي، ليعدّ مجرّد "سبب حقيقي لكي تصبح الأشياء مرئية"(1) بحسب تعريف أرسطو. فوظيفته لتُأكِّد تعلُّق المضمون بالواقع، وإضافة اللمسة الحقيقية على المشهد، ليستنطق الشكل ويجعله أكثر تعبيرًا كما هو الشأن في تجربة الرسام زبير التركي؛ تجربة عمدت إلى استغلال اللون أحيانًا والعزوف عنه أحيانًا أخرى، لتقدِّم رؤى مختلفة حول اللون والشكل.
إنَّ الدرس اللوني لدى زبير التركي مجرّد تعبير وبعث الروح في المشهد الحكائي، فقد يرى بعض النقاد جماليّة العمل وقوّة تعبيره بغياب اللون كما هو الشأن للأستاذ محمود المسعدي الذي يعتقد أنَّ لوحات زبير التركي بالرسم الخطي على الورق الأبيض من القوّة التعبيريّة بحيث تُغني عن اللجوء إلى الألوان، لما تُوفّره هذه الخطوط من صفاء وصدق وقوّة تعبيريّة"(2).
تكمن القوة التعبيرية للمشهد دون ألوان في إبرازه أنواع الخطوط وحركاتها وترابطها وحركة الشخوص والفراغ أمام كثافة الأشكال والدرجات الضوئية، الكتل، الأحجام والمكان لتحاكي بدقة الفلكلور التونسي... فهذه الدرجات التعبيرية قد يخفيها الحضور المتنوع للألوان. حضور هدفه بعث الروح في الأعمال الخطيّة؛ أعمال مفعمة بالحركة والحياة، فأي حضور يبعث الروح في مشهد انبعثت فيه الحركة على الرغم من غياب اللون؟ مقاربة تدفعنا لنقرّ ببراءة اللون في بعض التجارب من كل دلالة وتُعلي في الآن ذاته القدرة التبليغيّة للشكل والخط، بل قد تذهب بنا أعمال زبير التركي إلى أنَّ غياب اللون يجعل من العمل يحظى بالتأويل أكثر ويحافظ على الطابع الفلكلوري للمشهد، وينقل الصورة كما هي دون زيف الألوان التي تضفي على المشهد البسيط الثراء، وتحوِّل الفراغ إلى كتل مليئة ممّا يؤدّي إلى انحراف المعنى..
إنَّ تجربة التركي التشخيصيّة كشفت حقيقة الألوان في تلك التجربة؛ ألوان تتلاعب بحقيقة الصورة وتخفي جمالية الشكل المفعم بالملء والفراغ على الرغم من كثافة الأشكال واكتظاظها في فضاء اللوحة، فما يطرح من أعمال تشكيلية خطيّة تكشف سرّ نجاح العمل الفني وبدايات إنشائه حيث استرسال الخطوط وتجوُّلها بين مكوّنات اللوحة وكأنَّ الأشكال غير مرئيّة فعمدت الخطوط إلى كشفها وإحاطتها لتتراءى للعيان، أو ربما يكون الخط في أعماله مجرّد خيط رقيق نُسج بإيقاع الحركة، لينحني تارة وطورًا يستقيم، ليلتقي في نقطة ما، ثم ينفلت ويتفرّع ليشكل شكلًا آخر يتجوَّل بحريّة وبتلقائيّة، يزحف بحركته على كامل المساحات، فيكاد يتقمّص كل الأشكال ويختزل جميع المواضيع، فالخطوط المنحنية توهم بالحركة لتراهن على التنقل من شكل إلى آخر، هي حركة لها بداية وليس لها نهاية لأنها تروح بنا وتغدو في فضاء اللوحة، تتلاعب بالبصر في ظلّ غياب اللون، وكأنَّ الخط يرقص في فضاء اللوحة محتفلًا بغياب اللون.
إذن، فجماليّة الخط وقوّته التعبيريّة تُدرَك بغياب اللون، لذلك فإنَّ حضوره يستحوذ بأنانيّة على مكوّنات الأثر فيتقمّص دور الخط والكتل والفضاء حيث الملء والفراغ، فيخفي بذلك الجانب التعبيري للأشكال، إخفاء قد يغيِّر المنحى الوظيفي الأصلي للصورة أو يضيف جوانب تعبيرية إلى المعنى الرئيس.
وأمام هذه المفارقات التي يضعنا فيها غياب اللون في تجربة الفنان زبير التركي تشدّنا تجربة ثانية عمدت إلى إلغاء اللون في بعض أعمالها لتقتصر في بعض اللوحات على كتل بيضاء وسوداء، تشدّنا بأشكالها الأسطورية والعجائبية لنقرأ الصورة الخرافية دون ألوان، وهي تجربة الفنان عادل مقديش، تجربة جمعت في أعمالها اللون وأعلنت في بعض اللوحات غيابه. تجربة شاسعة الدلالات والمعاني سنحاول البحث في قدراتها التعبيرية.
ولئن عبَّرت تجربة زبير التركي عن الفلكلور التونسي وبرهنت على القوة التعبيرية للخط والأشكال في ظلّ غياب اللون، فإنَّ تجربة عادل مقديش جسّدت الخرافة والأسطورة ليقدِّم رؤية جديدة حول التراث التونسي. تجربة فنيّة استحضرت الأشكال والخطوط والتباينات الضوئية حيث الأبيض والأسود سيِّدا الفضاء الفني.
تترجم تجربة مقديش الموروث الثقافي عبر استلهام جملة من التقنيات والمؤثرات البصرية منها استحواذ القيم الضوئية على المشهد لتجسّد المواضيع والرموز، حيث عمد إلى التغاضي عن الألوان لتحلّ محلّها التباينات الضوئية حيث الكتل السوداء والبيضاء ترسم ملامح الحكاية الأسطورية، بعيدًا عن الإضاءة اللونية وتبايناتها، لتبرهن الأشكال حدّة حضورها وامتلاكها تفاصيل الحكاية، حيث الأشكال المنحنية والدائرية والخطوط المتفرعة والمتواصلة تعمل على حبك المشهد ورسم الرموز والعلامات بكل دقة، لتقدِّم في نهاية العمل صورة تنتمي إلى الواقع بتفاصيلها وتنزاح عنه، صورة تجمع بين التسطيح والعمق، لتضفي لمسة واقعية على الأشكال، وفي جانب آخر تنفي بعض التفاصيل ارتباط مثل هذه الأعمال بالعالم الواقعي، فشخوص مقديش تبدو وكأنها من عالم آخر؛ عالم يسيطر عليه الأبيض والأسود وكأنها صورة مقتنصة من شريط سينمائي قديم يروي تفاصيل حكاية ما، لربما تكون تراثية أو تاريخية، حكاية مليئة بالحركة والسكون، تُوزِّع بأسلوب متوازن القيم الضوئية توزيعًا يوهم البصر بتوازن الملء والفراغ، فبالكاد نقرُّ باستحواذ السواد على فضاء اللوحة حتى يشدّنا حضور الكتل البيضاء تفصل بين الأشكال لتحدّدها أو ترسمها داخل المساحات المظلمة.
كشفت تجربة مقديش بالأبيض والأسود براعة القيم الضوئية في تقسيم الفضاء وتصوير الحكاية، وهو كشف لعلَّ الغاية منه شدّ المتلقي ليتأمّل مكوّنات اللوحة وما تحتويه من أشكال حيث ليونة الخطوط ترسم أشخاصًا غرباء لطالما سمعنا عنهم؛ مثل الجازية الهلالية وأبوزيد الهلالي وبعض شخصيات القصص الحربيّة التي تروي قصص الحروب والبطولات... شخوص لم نرهم فقدَّمهم مقديش لنا بصورة متعالية عن الحقيقة، صور غريبة مثل حكاياتهم الأسطورية... وانطلاقًا من غرابة الشخوص والحكاية مزج الفكرة بتقنياته الفنية، فكانت الصورة مجموعة من الخطوط يحكمها التواصل الخطي المرسوم بقوّة، حياكة صهرت الخلفيّة بالشكل، جمعت الأبيض بالأسود، والزخرفة بالإنسان، والملء بالفراغ... كتل من الأشكال المترابطة في فكرة ومادة ومعنى... ترابط نسجته مكوّنات العمل الفني في ظلّ غياب اللون "إنها ذروة الإحكام التقني لاعبًا على علاقة الأبيض بالأسود وعلاقة الخط باللون في تنظيم اندمجت عناصره إلى حدّ التعقُّد"(3).
لقد أثّث مقديش لوحاته بمكوّنات الموروث الثقافي، فصوَّرها بأسلوب تناغمت بينه الكائنات والأشكال الزخرفية، حكايات تبنّاها لتجسد أفكارًا فنيّة قادرة على تحويل الصورة اللامرئية لتصبح مرئية، وتجعل الزمن البعيد يقيم في ربوع المعاصر، محافظًا في الوقت ذاته على دلالات الماضي، ليضفي الطابع التاريخي للعمل، كالكائنات الغريبة، الزخارف، الأبيض والأسود، الترابط بين مكونات اللوحة الذي يذكِّرنا بصفات الزخرفة الإسلامية، عناوين لوحاته كالجازية، سيرة بني هلال، القتال بالسيوف والفارس الذي يمتطي الحصان... مشاهد مأخوذة من "ميتولوجيات قرطاجية ومن أساطير شعبية ومن خُرافات الطفولة ومن اللاوعي الجماعي ومن فزع التمزق الذاتي بين الحلم والواقع"(4).
يعلن العمل الفني في ظلِّ غياب اللون قدراته التعبيرية، بل قد يقّر بعضها قوّتها التعبيرية من حيث إبرازها مكوناتها التشكيلية من صفاء الأشكال ونقاء الخط وليونته... فهذه الخصوصيات التي تتمتع بها اللوحة تعلي بها مكانة الخط وقدراته التشكيلية والتعبيرية غير أنه إعلاء نعدُّه محدودًا أمام بعض المواضيع الاجتماعية النقدية والنفسية والحربية التي تتطلب ضرورة استدعاء اللون وإدماجه مع الشكل لإيصال الصورة بجميع معاييرها الحسية والفنية. فباختلاف الموضوع تختلف التقنية، وباختلاف الهدف الفني تختلف الفكرة والقراءة. هي مراوحة بين الواقع والفنان والعمل الفني، مراوحة تسيّر مراحل إنشائية العمل التشكيلي وتعمل على محاولة التحرُّر والتقيُّد في الآن ذاته، مراوحة سنعمل على تتبُّع حضورها اللوني من خلال فكّ رموزها اللونية ومدى تعلّقها بالمخزون الثقافي والفكري للفنان وبمدى تعلّقها بالواقع.
• ثانيًا: الإضمار والإظهار اللوني
ممّا لا شك فيه أنَّ العمل الفني بإمكانه التعبير عن كوامن الفنّان الباطنية بخامات محدودة كالعزوف عن الألوان التي يراها بعضهم أنها مصدر ضياء اللوحة وتبعث الروح في الأشكال... غير أنَّ الفنان قد يجد في بعض المواضيع ضرورة استحضاره لما له من تأثيرات بصريّة على المتلقي وما له من إضافات إبداعية على الإنتاج الفني. فهذه الضرورة يحكمها الفكر الفني ورهان العمل التشكيلي وتلزمه أن يحترم الحقيقة لنقل انفعالاته بأمانة. قول نثمِّنه بتقيُّد بعض النماذج التشكيلية بالقانون اللوني الذي يعدُّ من أبرز التقنيات التي سعي الفنان إلى تأكيدها في أعماله وإدراجها دون تحريفها أو العزوف عنها، بل وجد في اللون قوة الخطاب وجسر التواصل بين أعماله والمتلقي. وأمام حضور اللون تأخذ القراءة الفنية منهجًا مخالفًا لما تطرّقنا له سلفًا.
وعلى هذا الأساس يفرض اللون حضوره على الإنتاج الفني ويلزمه أن ينبثق وينبلج بكل وضوح، يقينًا منه أنَّ اكتمال الرؤية التأويلية مصدرها الأساسي اللون، من هنا تتضح غايات العمل ورهاناته المرتبطة بما تقدِّمه القرائن البصرية من تأثيرات جمالية وحسية سواء أكانت تراجيدية أو كوميدية مفعمة بالأمل أو الألم.. قرائن تسعى إلى نقل ما وقع في ذهن الفنان، وفي الآن ذاته بإمكان المُشاهد ترجمة ذلك الخطاب التشكيلي المعبّر بالأشكال والألوان والمنصهر بالرؤى المختلفة، جمعت بين ما وقع في الذات الفنية والآخر من انفعالات وتأملات. تلك هي حقيقة بعض النماذج الفنية التي عمدت إلى توظيف الألوان بأسلوب مقروء ويمكن إدراك ما يضمره وما يظهره من رسائل فكرية ونقدية...
وأمام هذه الأهداف اللونيّة وجدنا في تجربة إبراهيم العزابي من خلال رسمه لبعض الأحداث المؤلمة ليعكس في لوحاته "قمع" دلالات مألوفة لدى عامة الناس.
يعود اختيارنا لهذا العمل لما يحمله من جوانب إنسانية أردنا من خلالها استنطاق دلالات رموزها اللونية؛ حيث الواقع يفرض ذاته على الفنان، فينطبع بصورة تكاد تكون متشابهة مع الواقع، تشابه لا في الشكل فقط، بل في توثيقها لمعاني الألم وأشكال التراجيديا لتظَلّ راسخة في الذاكرة، تترجم انفعالات الفنان بصور مشوّهة ومريعة وبِرَوْعِها يكون الإبداع، فكيف للمُريع إن يتحوَّل إلى إبداع؟
ذلك هو الفن؛ يراهن بتقنياته على جعل المشهد التراجيدي مشهدًا يضمّ معايير الإبداع تقنيًّا، وشكليًّا ولونيًّا، يوهمنا للحظات أنه بعيدٌ ومتعالٍ عن الواقع، ولكن باقترابنا من العمل نلامس انفعال وحضور الخطاب الواقعي في اللوحة حيث الشخوص المشوَّهة والألوان الباهتة المعبِّرة عن الألم، ألوان امتزجت بالاصفرار والرمادي والأسود، جسَّدها بمواد سميكة حيث الطبقات اللونية فوق بعضها بعضًا ليُبرز عمق الجراح ولتعبِّر الصورة بقوَّة عن الألم وتلامس حسّ الفنّان قبل المتلقي.
فالفنّان يغوص في عمق المعاني لغويًّا ليعبِّر عنها فنيًّا، ينتقي من الصورة ما يلامس الإحساس وما يعبِّر بقوة عن شدة الألم، فكانت الألوان جزءًا من مكوّنات اللوحة، تحاول إدراك تراجيديا الشكل. لذلك نلاحظ اللطخات الحمراء وقد امتزجت ببقية الألوان، لتعبِّر عن العنف والموت والدمار لأنَّ "المحسوس هو الذي يبدع الموضوع المتمثل، فهو الذي يظهره ويمنحه صوتًا ينطق به، ويجعله يقول شيئًا آخر غير الذي يقوله بطريقة نثريّة للإدراك النفعي"(5).
فهاجس الفنّان رصد الواقع وما يحمله من صرخات وأنين، لذلك حافظ على بعض تفاصيل الصورة حيث الأبيض للتعبير عن الجراح المضمَّدة، والأحمر للدلالة على الدماء، والأسود للدلالة على عمق الثقوب؛ تصويرٌ جمع فيه الخيال بالواقع. وكأنَّ العزابي بعمله يسعى إلى أن "...يترك آثار وبصمات أو ما تبقّى من جراح بل خطوطًا عميقة مهمّتها الأولى أن توقع النور في فخّها... ذلك النور الذي من دونه يغزو الليل النهار"(6).
إنَّ خصوبة العمل الفني تكمن في التقاء التقنيات والمواد، ورهان الموضوع الفني يكمن في الانتقاء الدقيق للمواد والألوان، لذلك جمعت أعمال العزابي بين المواد المختلفة والتقنيات المتعددة لتحوِّل الانفعال إلى صورة محسوسة تلامس بإبداع المشهد التراجيدي وتحاكي بأسلوب تجريدي الواقع، وجعلت من الألوان مطية الأشكال لتشحنها بعبارات العنف والألم في ظلّ سكون الأشكال على الرغم من صراخها.
ينفتح العمل الفني على الواقع ليحتضن الأفعال والحكايات والأقوال والأحداث... يسعى لإبداع فكرة خطيّة تتباهى بقدراتها الحسيّة والتمثيليّة في ظلِّ غياب الألوان، وقد يبدع (العمل الفني) بحسٍّ لونيّ ليكشف حاجاته للّون... وهكذا يظلّ العمل الفني بين جدل حضور اللون وغيابه رهين طموحات الفنّان وبحوثه.
• الهوامش والمراجع والمصادر:
(1) عثمان (صلاح)، الواقعة اللونية، منشأة المعارف، مصر، 2006، ص68.
(2) انظر موقع الموسوعة التونسية المفتوحة، مقال بعنوان "زبير التركي" على الموقع الإلكتروني http://www.mawsouaa.tn
(3) بيده (الحبيب)، الحلم والأسطورة والخيال في رسومات عادل مقديش وعلي الطرابلسي، صحيفة العمل الثقافي، 17 آذار/ مارس 1988، ص23.
(4) حوار أجري مع الفنان عادل مقديش، صحيفة بلادي، 20 آذار/ مارس 1983.
(5) حسن (محمد حسن)، مذاهب الفن المعاصر، هلا للنشر والتوزيع، الشارقة، 2003.
(6) كاتلوغ معرض إبراهيم العزابي بقاعة الأخبار بتونس، تقديم الناصر بالشيخ، سنة 1976.