قصة: حسام الرشيد
قاص وروائي أردني
قبل أيام هاتفني المُحرِّر لكي أبعث له بقصة جديدة غير منشورة في مجموعاتي القصصيّة السابقة، طابت لي فكرة البحث عن فكرة لقصة جديدة، انزويتُ في المساء بالبيت بمكتبي وأمسكتُ بالقلم بعد أن أغلقتُ الباب ورائي بالمزلاج. أمامي رزمة من الأوراق البيضاء، زهاء ساعة من الزمن جلستُ، ولكنّي على الرّغم من سكون الليل البهيم، لم أخطّ حرفًا واحدًا، فاستربتُ بالأمر، لم يحدث لي هذا قطّ من قبل، كنتُ ما إن أجلس وراء مكتبي، حتى تزدحم الأفكار في رأسي دفعة واحدة، وما هي سوى ساعة أو ساعتين، حتى أكون قد فرغتُ من كتابة المسودة الأولى من القصة.
خلدتُ للنوم بعد أن رسخت لديّ قناعة؛ أنَّ كتابة قصة في هذا المساء هي ضرب من المستحيل، في صباح الغد سأهاتف المحرِّر وأعتذر له، سأقول إني لن أستطيع إرسال قصة جديدة له، فقد مضى زمن طويل على آخر قصة كتبتها، فليستميحني عذرًا، وأنا حتى الرمق الأخير من الليل ظللتُ جالسًا، ولم أقع على فكرة واحدة أتشبَّث بها لكتابة قصة جديدة.
ولكني لم أكد أغمض عينيّ، حتى فكّرتُ في المحاولة مرَّة أخرى، لن أستسلم من الجولة الأولى، هذه المرَّة لن أجلس في مكتبي منتبذًا بنفسي عن العالم حتى يهبط عليّ وحي الكتابة، في صباح يوم غد سأسعى إلى المقهى القديم في المدينة، سأجلس سحابة النهار في ركن قصيّ من الصالة الواسعة، والتي تزيِّن جدرانها صور لمطربين قدامى، كعبده الحامولي وصالح عبدالحي والشيخ إمام، ومثل مخبر مخضرم سأطالع الجريدة بعينين نهمتين، فيما أسترقُ السَّمع إلى أحاديث روّاد المقهى من حولي، ولا سيما أنَّ عشرات القصص تُروى في ذلك المكان العاج بعجائز طاعنين في السن، وشباب عاطلين عن العمل، وأرباب سوابق متوارين عن الأنظار.
في مقتبل النهار، دخلتُ إلى المقهى بخطى راسخة متأبّطًا جريدتي، جلستُ على كرسي من الخشب له مسند مُجدَّل بالقشّ، خلف طاولة ذات قوائم مفلطحة كأقدام الفيلة، بعد لحظات جاءني النادل المفرط الطول وهو يعرج في خطواته، وثمّة ابتسامة استرخت على تقاطيع وجهه المتغضّن مرحّبًا بي، رفع يده اليسرى فوق رأسه الأبيض الذي تعلوه طاقيّة مدوَّرة الأطراف وقال لي:
- كيف حالك أستاذنا؟
قلتُ له:
- بخير.
وضع الصينية على طرف الطاولة، وأحنى جذعه للأمام قليلًا، ثم قال لي:
- كالعادة، شاي سُكَّر زيادة.
هززتُ رأسي دلالة الموافقة وقلتُ له:
- نعم.
فردتُ الجريدة أمامي، وصرتُ أطالع الأخبار على الصفحة الأولى، بعد أن أخذتُ عهدًا على نفسي، أني لن أخرج من هذا المقهى حتى أحقق مبتغاي، فما زال النهار في أوّله. في جيب معطفي وضعت قلمًا وورقة بيضاء، سأخطّ عليها ما أسمعه وأظنه جديرًا بالكتابة، فربّما أظفر خلال جلستي بأكثر من قصة، هذه فرصة لاحت لي، عليّ أن أغتنمها ولا أدعها تفلت منّي.
وسرعان ما ازدحم المقهى بروّاده، كان صخب أصواتهم قد ملأ المكان، وعجاج دخان سجائرهم انعقد كتشكيلات من غيوم فوضويّة، وجعلتُ أقلّب صفحات الجريدة، على عجالة أقرأ الأخبار الواردة فيها، فيما كنتُ أسترق السَّمع إلى الحوارات الدائرة بين روّاد المقهى من حولي.
لكن ما لفتني هو ذلك الحوار الذي جرى بمحاذاة طاولتي، بين ذلك الرجل المربوع والشاب القصير القامة، كان الرجل ذو سحنة مريبة، وجهه له سمرة كهباء، آثار موسى على خدِّه الأيمن، عيناه منحرفتان قليلًا إلى اليسار، أمّا الشاب فقد جلس مطوّحًا برأسه للوراء، ومصالبًا يديه على صدره، كان يكتفي بهزّ رأسه مع كل كلمة يقولها الرجل المربوع.
قال الرجل المربوع للشاب المنتفض في إهابه:
- علينا أن نتخلّص من الجثّة.
قال الشاب وهو يغمغم:
- ولكن...
قال الرجل وهو يكزّ على أسنانه:
- هذه هي مهمّتك.
قال الشاب وهو يزوغ بنظراته يمينًا وشمالًا:
- لعلَّ أمرنا ينكشف.
قال الرجل وهو يخبط بقبضة يده على الطاولة:
- لا تخف، لقد وضعتُ الخطّة بعناية فائقة، وليست تلك هي المرَّة الأولى.
قال الشاب وهو يعضّ على شفته السفلى:
- كما ترى.
وما لبثت أن ارتفعت عقيرتهما بالغناء، وهما يميلان برأسيهما ذات اليمين وذات الشمال كأنهما مخموران، وضعتُ الجريدة جانبًا، ارتشفتُ بضع رشفات من كأس الشاي الذي سرى طعمه في حلقي كالسم الزعاف، كنتُ أنظر من زاوية عيني باستغراب إلى الرجل والشاب اللذين بعد أن فرغا من الغناء عاودا الحديث مرَّة أخرى.
إلى رأسي زحفت الأفكار المتضاربة، كأنها جيوش من النَّمل الزاحف، ماذا عليّ أن أفعل، هل أذهب إليهما وأفضح أمرهما؟ ولكنّي إنْ فعلت ذلك ربّما لا آمن شرَّهما، أم أنسى ما سمعت، فأنأى بنفسي عمّا لا طاقة لي به.
في تلك الأثناء كان النادل يسعى في أرجاء المقهى، يمرُّ بالرجل والشاب وهو ينظر إليهما بازدراء، ولا يحفل بهما، ثم ما لبث أن سعى نحوي، وهو يُحكم رباط مريلته المبقّعة على بطنه، قال لي بصوت جدّ خفيض:
-الرجل والشاب اللذان يجلسان إلى جوارك هُما...
بأطراف أصابعي زحزحتُ كأس الشاي من أمامي إلى يسار الجريدة، التي كنتُ قد طويتها جانبًا، وقلتُ له بصوت لا يكاد يبين:
- كأس شاي آخر.
زفر هواءً عميقًا من صدره، وأدار ظهره لي، كأنه شعر بأني قطعتُ دابر الحديث معه، في قرارة نفسي غفرتُ له ما فعل، فقد بدوتُ مشوَّش الذهن، بضراوة تتناهب عقلي أفكار شتّى، ماذا عليّ لو ذهبتُ إلى الشرطة، وأخبرتُ المحقق بما خرق سمعي، بيْد أني تقهقرتُ عن هذه الفكرة، التي ظننتها لوهلة فكرة آثمة، سأورِّط نفسي في سين وجيم، ولا أجد نفسي إلّا قابعًا بين جدران السجن.
جاء النادل وكان هذه المرّة متلفعًا بالصمت، وضع كأس الشاي وانصرف. أخرجتُ الورقة والقلم من جيبي، في تلك الأثناء حانت منّي التفاتة إلى الرجل والشاب، حاول الشاب أن ينهض، ولكنَّ الرجل أمسكَ به من منبت يده، فجلس الشاب مجبَرًا وجعل يتصفح مجموعة من الأوراق أمامه، ارتشفتُ رشفة من كأس الشاي، ودوّنتُ على الورقة ما هي الخيارات أمامي، ووجدتني أميل إلى أن أتحقق من الأمر بنفسي، سأخرج في إثرهما، وأقتفي خطواتهما حتى أستبين الأمر برمّته، ثم أذهب إلى الشرطة وأكشف النقاب عن جريمتهما النكراء.
بعد لحظات قصار خرجا معًا من المقهى، الرجل في المقدمة، وخلفه الشاب يحمل مجموعة من الأوراق، يمشي مطأطئ الرأس وهو يجرّ رجليه جرًّا، مشيتُ وراءهما وأنا أتلفت حولي بحذر، فقد خشيتُ أن يكتشفا أمري فيحدث ما لا تُحمد عقباه. سارا من زقاق إلى آخر، كنتُ أبطئ من خطواتي حتى لا أكون في مرمى نظراتهما، فكّرتُ أن أعود أدراجي، ولعنتُ نفسي على ما جنت يداي، أيّ فكرة عابثة تلك التي أقدمتُ عليها بالخروج وراء هذين المجرمين العتيدين.
في الزقاق الأخير انعطفا، فلمّا بلغا آخره، رأيتُ مجموعة من الرجال المفتولي العضلات والمديدي القامة، انبثقوا فجأة من زاوية الزقاق وانقضّوا كالثيران الهائجة على الرجل والشاب، فقد نصبوا لهما كمينًا في هذا المكان. حاولا الفرار ولكنهما لم يستطيعا، على الرغم من صرخات الاستجداء التي أطلقاها.
بخطوات مرتبكة اقتربتُ، ورأيتُ بعينين قفزتا ذاهلتين من محجريهما، الرجال وهم يزجّون بالرجل والشاب في حافلة صغيرة، ليعودا بهما إلى مستشفى الأمراض العقليّة، الذي فرّا منه صباح هذا اليوم.