قصة: حنان بيروتي
قاصة أردنية
كان الوقتُ مساءً، تجدل الشمس شعرها الذهبيّ، وتتهيّأ للتسلّل في شق الأفق ليحلَّ الليل، لم تكن "بثينة" تحب مجيئه لأنه يقيِّد حريّتها في اللعب في الحارة مع رفيقاتها، "بيت بيوت" و"ليلى يا ليلى ليش عم تبكي" و"الحجلة" وأكثر الألعاب حركة وجنونًا "الطُّمّاية أو الكُمستير".
لحظةَ سمعت نداء أمها لم تستجب، هي عادتها في التظاهر بعدم السَّماع لتكسب وقتًا إضافيًّا من المرح، لكن هذه المرَّة لم تُجدِ الحيلة، رأت أمها بجثتها الضخمة وبثوبها النظيف الذي لا ترتديه إلّا لاستقبال الضيوف تتَّجه نحوها، وتحثُّ الخُطى كأنها تتهيّأ للانقضاض، جرّتها من ذراعها ورتّبت شعرها المبعثر وسحبتها من حارة الطفولة.
بثينة عروس! تناقلت الفتيات الخبر، جاء رجل "مبسوط" من المدينة واختارها زوجة له، والمدرسة؟ ولعبة الكُمستير وهي أبرع الفتيات في الركض والاختباء، لكنَّ بثينة لم تتقن الاختباء من أهلها الّذين أصرّوا على تزويجها، تتذكَّر حيرتها أمام حجج والدها المتعلقة بالحالة الماديّة الممتازة للعريس وأهميّة السترة المبكرة للفتاة. لا تنسى سكوت والدتها ورضوخها للأمر، لو أنها فقط هيّأتها لِما سيحدث! لِما يجب أن تتوقعه حين اقتادها رجلٌ يقارب في العمر والدها بفارق قليل من السنوات، ماذا تجدي "لو" أمام قسوة الواقع؟ الليلة التي شهدت اغتصابها تحت مظلّة الزواج واقتيادها للمستشفى بعد حدوث نزيف، كادت تفقد حياتها، كيف تنسى وجه أبيها المحتقن بألم دفين ودموع أمها، هي ذكرى موشومة في نفسها لا تمحوها السنون اللاحقة.
تتذكَّر بطنها الصغير وهو يتكوَّر مثل كرة تتمنّى أن تركلها مع الصبية أو تدحرجها مع رفيقاتها اللاتي أصبحن بعيدات مثل حلم، وهي حبيسة بين أربعة جدران، وكفّاها خشُنتا من الأشغال البيتيّة، لكم تحنُّ لغرفة الصف في المدرسة، لِم كانت تتذمر؟ ألم تكن جالسة على مقعدها بلا جلي ولا غسيل ولا جثة الزوج الذي يأكل من جسدها بنهم قبل أن يشخر كثور؟ ذاكرتها مكتظة بالألم لكنَّ المسكِّنات كثيرة فهذه عادات البلد وسترة البنت بالزواج و.... و... ماذا بيدها أمام كَمّ الكلمات المُعدَّة بإحكام التي توجَّه ضدَّها كلَّما فكَّرت في عتاب أمها أو العتب على أبيها الذي بات كثيرَ الصمت ولم تعُد ضحكته تلعلع في أرجاء البيت منذ زمن؛ كأنّما فقد شعلةً في روحه.
- "بثينة" أو "أم حسن"؟ ماذا تحبين أن نناديك؟
سألتها إحدى الجارات ممَّن اجتمعن في بيتها بعد ولادتها لبكرِها "حسن"، فكرتْ وهي تحسّ بدوّامات من التعب والكآبة تظلّل نفسها بأنّها لا تريد الكِنية التي تبدو كبيرة عليها "أم حسن؟!" هل هذه الكتلة اللحميّة الزاعقة كلّ الوقت لي؟ وأنا مسؤولة عن إرضاعها وتحميمها وتغيير حفّاظتها و...
جسدها متعَب كأنه مكسَّر بجرّافة أو بـ"تراكتور" يشبه ما يقوده والدها في أرضهم حيث كانت تلعب مع رفيقاتها، وحين يحلّ المساء وتكتحل الأجواء بلون الغروب يسرعْنَ للبيوت، إلّا تلك الليلة التي جاءتها أمها لتسرق منها الطفولة!
تغمض عينيها كأنها تلوذ من ذكرياتها، بعض الذّكريات تنغرس في القلب مثل شَوْك عنيد، ما زال في نفسها رواسبُ لا تزول تجعلها تكره بأنّها خُلقت أنثى، أصوات الجارات تتعالى حولها، تصغي بلا تركيز فثمّة إحساس بالاحتراق تحسُّه كأنّ مسامها تنبض بالحرارة، تقترب إحداهن وتضع كفها على جبينها وهي تهتف: "هذه حمّى النفاس! مسكينة بثينة مثل الجمرة!".
عندما سمعتُها تذكّرتُ بأنها تعنيني، كنتُ متعبة وعظامي توجعني وكلّ جسدي ينتفض، والحرارة تنشب مخالبها في أحشائي تذكِّرني بأوجاعي وصراخي أمام القابلة التي نعتتني بالطفلة المدلّلة، وهدَّدت بضربي إن لم أستجب لتعليماتها... جسدي كأنه انفصل جزئين وصراخي يحفر بأظافر الوجع جدران غرفة الولادة، وصرخة الطفل الذي وُلد مبكرًا جدًا وبوزن ضئيل يخزّني بالخوف من الآتي.
- بثينة! وين إنتِ يمّه!
أسمع نداءها فأسرع إليها، أرقب وجهها المُصفر ونظرة الوداع التي تحتلّ عينيها، تتأمّلني بأسف وتهمس بين أوجاعها: "ظلمناكِ يمّه سامحيني!".
أسمع كلماتها التي تمنيتُ سماعها طيلةَ سنوات من الألم فلا تثير بي إلا مزيدًا من الجمود، أتابع حديثها كمن يرقب مشهدًا محايدًا في تمثيليّة لا علاقة له بها، لكنها تفاجئني بنظرة دامعة وهي تهمس بضعف: (وصاتك أختك "لبنى" كوني جنبها ما تزوّجوها صغيرة، خلّيها تتعلّم وتنضج منيح).
تثرثر، هي تثرثر، هكذا قبل الموت تكثر النصائح والحكم؛ لماذا لم تكوني حكيمة يوم جررتني من الحارة ونزعتِ ربطة شعري ومددتِ بسكّين الكحل لعيني، وحشوتِ صدري بالشرائط والإسفنج ليبدو ممتلئًا وهو لم يتمّ نموّه بعد؟
ما جدوى الأسئلة الآن وأنا أجهِّز القهوة وأسمع صوت أبي ينادي على لبنى. أنكمش مثل عصفور مبلَّل وأنا أرقبها تهرب إليّ والدموع تملأ عينيها، ماذا بيدي وأنا بتُّ أرملة وبلا شهادة وبلا دخل وبمسؤوليّة ولد وبنت؟ بعد موت زوجي المُسنّ ورحيل أمي، أعيش في ظلّ أبي على كفاف الشفقة، وهو يهدِّد بإلقاء الأولاد لعمِّهما لأنه غير مجبور بتربيتهما. أوشكُ أن أحتضنها وأتمنّى لو أخبِّئها في قلبي كي تكبر على مهل قبل أن يجرّها أبي للزواج، لكنها تقف محدّقة بي، سكوتها يشي بألم كبير، ماذا تعرفين عن الألم يا صغيرتي؟ لم تتذوّقي بعد عتمة الانسلاخ عن الطفولة، آآآخ ماذا أقول لكِ؟ وهل تقوى مخيّلتك الصغيرة على رسم لوحات الألم الآتي؟ وتخيّل انكسار العمر في أوّله؟!
القهوة باتت جاهزة، رائحتها تعبق المكان، أجهِّز الفناجين وأسألها بحياد عن عدد الموجودين غير أبي، فتعدِّد، قبل أن تنهي جملتها بـ"الرجل الذي يطلبكِ"!
يقع السقف على رأسي، وترتجُّ بيدي الصينية بالفناجين المملوءة بالقهوة، قبل أن أستجمع صوتي بصرخة مكتومة!