نص: إنتصار عباس
كاتبة أردنية
(1)
أمي التي باعت قرطها ثمنًا لكتبي تسألني: "ما نفع كل السنين التي أمضيتِها في الدراسة؟"، وأنا حتى تلك اللحظة لم أستطع أنْ أستردَّ قرطها، يا الله لهذه الذاكرة الخرفة، ولتلك السنين التي لم تستطع أن تنزع من أذنَيْ أمّي قرطها، ولذاك القرط الذي لم يزل يثقبهما متدلّيًا في مرآتها يشي بي..!
(2)
وتهاتفني أمي تسأل أيني؟ وتنسى أنني حين غادرتُها تركتُ لها بعضًا من روحي وذكريات تؤنس وحشتها.. معذرةً أمي؛ لم يكن اختياري، لكنَّها خيانات الجسد.. كانوا على عجلة من أمرهم وهم يهيلون التراب عليّ، لم ينتظروا ريثما أستفيق، تركوني وصوتكِ وحيدين، أنتِ تنادين.. وأنا أنقش وجهي في نبضك ذكرياتٍ وصورًا·
(3)
أمي التي كنتُ أغضبُ منها وهي تنهرني بصوتها العالي لم تزل تلاحقني لأتناول الطعام، تطلُّ عليّ، تراني وأنا نائمة، البارحة أغرقَتْ المنزل بدمعِها وقد أخذني الحلم إلى ما وراء البعيد·
(4)
اعتاد أبي في كل صباح أن يجمع الياسمين المتساقط في وعاء يسكب عليه الماء، يشعل الرَّوائح، يوقظ الياسمين وأمي... واعتادت أمي أن تجهِّز القهوة ويجلسان تحت ظلال الياسمين، يحتسيان قهوة الصباح...
رحل أبي وظلَّت ظلاله تُحاكي الياسمين والأطياف المارَّة والجيران.. ووجه أمي التي لم تزل كلّما تضوّع الياسمين عطره، جهَّزت القهوة وجلست تحت ظلاله تنتظر.
(5)
لم تزل الكاميرا التي سرقت ابتسامتكَ تخدعكَ في كلّ مرَّة بأنها تردّها لحظة تراك... ولم تزل طيبًا تصدِّق كل ما قيل ويُقال.
(6)
دونك كل الأشياء بقيت على حالها، لم يتغيَّر عليها شيء، الساعة تدور، الأيام تمضي، الرَّوائح تسري، الناس هُم هُم، إلّا جداول روحي توقَّفت عن الجريان..
(7)
سأصنع من قلبي ممحاةً ومن أنيني فرشاةً أرسم وجهكَ ثم أمحو.. أرسم وأمحو.. أرسمك وأمحو.. أر... وأمـ... أر... وأمـ... حتى تتلاشى..
(8)
الرَّجل الذي أحبَّها بكل تفاصيلها رحل.. استطاعت بمرور الوقت ترتيب الفوضى وهندمة الأشياء.. ولم تفلح في ترميم الجدران التي كانت تحمل صوره وأحلامه.. حتى النافذة كان يطلُّ منها ظلٌّ ينادي...