هشام أزكيض
شاعر وكاتب مغربي
• الألوان لا تكذب
قال لها يومًا أنه يتمنّى أن يبحر وحيدًا من دون خرائط، في قارب خالٍ من الأضواء. يتمنّى أن تكون نهايته مختلفة عن الآخرين.
أحلامه كانت تشبه واقعه، فهو كل يوم كان يغادر بيته من غير أن يعرف وجهته. يبحث عن زاوية خالية على رصيف مزدحم، ليضع أدوات الرسم الخاصة به، منتظرًا أن يرسم أحدًا لا يعرفه.
كانت مهنته الرسم.. رسم وجوهًا كثيرة، وملامح كثيرة.. وهو الذي أضاع ملامحه منذ زمن في عيون امرأة؛ ومنذ أضاعها وهو يعجز حتى عن رسم وردة بيضاء.
يأتي العابرون، أحدهم يريد رسم حبيبته، وأخرى ليرسم عشيقها. وهكذا تمضي أيامه في رسم أناس لا يعرفهم.
ولكن الذي أيقظه من غفوته، ذلك الشاب الذي جاء إليه ذات يوم، وجلس بجواره على الرصيف وقال له بصوت خافت:
"هل تستطيع أن ترسمني، وأنا سعيد؟!".
ومن ثم أشعل سيجارة، وقال: "ابدأ الرسم إن استطعت، وسأعطيكَ كل ما أملك".
استيقظ حزنه، وهو يستمع إلى كلام الشاب. ولكنه تجاهل حزنه، وقال: "سأرسمكَ كما أنت؛ شاب أنيق ما زال في ربيع عمره".
ضحك الشاب بصوت عالٍ ونظر حوله وكأنه يريد إخباره بسِرٍّ يخفيه عن الجميع وقال:
- لا تخبر أحدًا عن ربيع عمري، أخاف أن يقطفوا ما بقي منه على الأغصان.
وضحك مرَّة أخرى...
ومن ثم نهض، وقال بصوت مرتفع، وكأنه ممثل بارع في مشهد على خشبة المسرح:
"أنتَ لن تستطع رسمي وأنا سعيد؛ السعادة لا أحد يستطيع رسمها. فأنا حزني يتجاوز فرشاة ألوانك. انظر حولك، تابع وجوه العابرين، لا أحد يبتسم هنا في وطني. حتى أنتَ ينقصكَ ملامحك..
كم رصيف أضعتَ عمركَ عليه، وكم لوحة لغرباء أضعتَ لأجلها خطوط يديك. لا تعلِّم الألوان الكذب، ولا تقتل نقاء اللوحة. ارسم خيبتنا، ارسم وطنًا لم يكن يومًا لنا، ارسم حُبًّا مَرَّ من هنا. ولكن لا ترسمني أنا.. فأنا غريب يبحث عن وطن، أضعتُه هنا".
انطفأ صوته، وبقي هادئًا للحظات، ومن ثم قال:
"ارسمني كما أنا.. غصنًا يميل ولا ينحني، ينتظر لهذا الليل أن ينجلي. ارسمني ولكن لا ترسم بكائي. ما بكيتُ يومًا، ليس قوّة منّي، ولكني أخاف أن تراه أمي!!".
• رسالة اعتذار
قال لها يومًا:
- نحن لا نستطيع أن نخبئ جرح أحد في أعماقنا للأبد، ولا نستطيع أن نبقى أحياء، وثمة موت في أعماقنا يسكننا.
نظر إليها لثوانٍ، ومن ثم تنهَّد وقال:
- إلى أيّ مدى نستطيع إخفاء جثّة أحد مات في أعماقنا. كيف نخفي الموت والخذلان والخيبة الكبيرة؟
كان يسألها، وهو يعلم أنها لا تمتلك إجابة، وإنَّما كان يحاول أن يخفي تحلُّلَ أحدٍ في أعماقه.
ما استطاعت الردّ على سؤاله، كانت تبحث في أعماقها عن إجابة لكنها لم تجد. كان داخلها مزدحم بتفاصيل حديثِه.
احتسى قليلًا من فنجان قهوته المُرّة، وقال بصوت عالٍ:
- أنتِ مثلًا... تقرأين كل ليلة الفاتحة على روح أحد ما زال على قيد الحياة، لكنه من داخلك قد مات منذ زمن طويل!!
ولو سألتك الآن إن كان قد مات، ستؤكدين ذلك، وتبوحين:
"إنه مات حين نسي وعوده لي، حين قرَّر أن يغادر في طائرة لن تعود إلى مطاري أبدًا. حين ترك لي رسالةً يعتذر".
• همُّه الوَحيد...
كان يكتب لها وهو يزحف تحت وابل الرَّصاص، والموت يرتطم بكتفه كلّ ليلة.
في كل مرّة كتب لها، كانت رسالته بمثابة وداعٍ مُنتظَر، كان يخشى يومًا أن تسرق رصاصة ذاكرته، أو عمره كاملًا.
كان يكتب لها كل يوم، وفي نهاية كلِّ رسالة، يكتب: "تذكَّريني دائمًا، وإنْ نفد حبر عمري من صندوق بريد قلبِك يومًا لا تنسيني".
لم يكن يخشى الموت، بقدر ما كان يخشى أن تعتقد أنه نسيها.
ما كان يهمُّه أنْ تنفد ذخيرته من الرصاص، بقدر ما يهمُّه أنْ لا تنفد ذخيرة الأوراق والأقلام من حقيبته العسكريّة.. فكيف حينها كان سيرسِل لها...؟!