السياحةُ كصناعةٍ ثقافيّة

•إبراهيم غرايبة.

عضو هيئة تحرير مجلة أفكار.

تتحوّل السياحةُ إلى منظومةٍ اقتصاديّةٍ واجتماعيّةٍ؛ لم تعد تقتصر على مجموعاتٍ تسافر وتقيم في الفنادق، وتشارك في برامج زيارات مُعدَّة ومرتبة لمواقع ووجهات تاريخيّة أو ترفيهيّة... لكنَّها اليوم أسلوبُ حياةٍ ممتد في النسيج الاقتصاديّ والاجتماعيّ والثقافيّ للأمم، تشارك فيها جميع القطاعات والمؤسسات في الدولة والمجتمع، ومن ثم فإنَّ النهضةَ السياحيّةَ في بلدٍ ما صارت تعتمدُ على جميع المكوّنات السياسيّة والاجتماعيّة، الأمن والاستقرار، والحريات، وأسلوب الحياة، والخدمات والمرافق العامة، والنقل، والأسواق، والمطارات، والإدارة العامة، واللغات، والسلوك الاجتماعيّ، والأفراد والأسر، فضلًا عن الثقافة السائدة والعادات والتقاليد والقيم والأعراف، والأسعار، والإتقان والثقة... وقد يكون ضروريًّا- وإن كان تقليديًّا ومتوقعًا- الحديث عن صيانة المرافق والمؤسسات والمكاتب السياحيّة، وتحديث أنظمة النقل والخدمة والإرشاد والإعلان والتسويق. 

إنَّ الحديثَ عن السياحة، اليوم، يتّصل بمنظومة معقدة وشاملة ومتنوعة، لقد أصبحت السياحةُ صناعةً ثقافيّة، ولم يعد السيّاح تجذبهم مؤسسات وبرامج سياحية متخصّصة فقط، ولكنَّهم يقصدون وجهاتٍ كثيرة يقوم عليها المجتمع السوق، ويسلكون في اتّجاهات وبرامج تحتاج إلى حياة يوميّة ملائمة وجاذبة لهم.

ولذلك فإنَّنا حين نتحدث اليوم عن السياحة؛ فإنَّما نتحدث عن مجتمعاتٍ ودودة ومضيافة ترحب بالقادمين، ولا تنفر من الغرباء أو المختلفين، ومواطنين يتحدثون اللغة الإنجليزية بكفاءة ويتمتعون بمهارات اجتماعيّة، وبيوت وغرف عادية (ليس بالضرورة فندقية) نظيفة وملائمة للضيافة، وأسواق يسلك فيها السائح مثل المواطن العادي، وأسلوب حياة يجذب السيّاح، مثل المطاعم والمقاهي والأمسيات والأسواق والمحلات التجارية العادية التي تقدّمُ بضائعَ وسلعًا بأسعارٍ معقولة.

 لم يعد السيّاحُ يشعرون بتمييز في المعاملة والأسعار، فذلك ينفّرهم، ولم يعد السيّاح يجهلون تفاصيل الحياة والأسواق في البلاد التي يزورونها؛ بل على العكس، فإنَّهم يأتون مزوّدين بقدرٍ كبيرٍ من المعارف والمعلومات التي لا تقلُّ عن معرفة المواطنين وخبراتهم. 

يبحث الزوّارُ والسيّاح- عادةً- عن خدماتٍ وأهداف أخرى غير الزيارة والاستمتاع، مثل العلاج سواء في المستشفيات أو لدى الأطباء، ويمثّل أطباءُ الأسنان والاختصّاص في الأردن وجهةً تقليديّةً لهم، وبالطبع فإنَّ السياحةَ العلاجيّةَ قطاعٌ واسعٌ وكبيرٌ لا يمكن الإحاطة به في مساحة محدودة. كما يبحثون عن سلعٍ يمكن أن يتميّز بها البلد الذي يزورونه، وفي الأردن تشكّل الحلويات والتذكارات السياحيّة والثقافيّة، أو منتوجات وأطعمة مميزة مثل الزيت والزعتر والسماق  والجميد والفريكة، مقصدًا شرائيًّا لهم. 

وتجتذب الثقافة والفنون فئةً واسعةً من الزوّار، مثل الأماسي الغنائيّة والموسيقية والندوات ومعارض الكتب والمهرجات الفنيّة والثقافيّة، وتنمو أيضًا السياحة البيئيّة والمغامراتيّة، مثل المشي في الغابات والجبال والبوادي والأودية. وصار وادي رم مقصدًا سياحيًّا مهمّا لأجل حياة بسيطة وهادئة ومنعزلة في الطبيعة وتحت السماء الصافية. ويشكّل الطلاب الأجانب موردًا سياحيًّا مهمًا، وعندما يجد هؤلاء مجالًا لحياة يوميّة تحوي بيئةً اجتماعيّةً صديقةً وملائمة، إضافةً إلى الدراسة الجيدة؛ فإنَّهم يشكّلون قوّةً اقتصاديّة وثقافية ناعمة ومهمّة تجتذب الزوّار وتعطي فكرةً جميلة عن البلد. ويشكّل الزوّار الذين يأتون لقضاء الإجازة في حياة يوميّة عادية مصدرًا سياحيًّا غير مرئي؛ لكنَّه فائق الأهمية، ليس فقط في ما ينفقونه في أثناء إجازاتهم، لكنَّ تجاربهم الجيّدة يمكن أن تجذبهم  إلى استثماراتٍ واسعةٍ ودائمة. 

لدينا في الأردن طبيعةٌ جميلةٌ، ومواقعُ أثريّة كثيرة جدًّا، ومُناخ فريد ومتنوّع، ومجتمعٌ مضياف ومتعلم، ويمكن أن نقدّمَ خدماتٍ وسلعًا مطلوبة ومفيدة للزوّار والسيّاح، لكن ينقصنا طرق للمشاة والدراجات، وتطوير الدروب السياحيّة البريّة في الغابات والجبال والبوادي، وتدريب مستمر للأسر والأفراد العاملين في قطاع السياحة المجتمعيّة.