أهازيجُ الصعيد: طقوسُ الحاراتِ والأزقة

رابعة الختام

كاتبة وناقدة مصرية

 

الأهازيجُ الشعبيّةُ ميراثُ الشعوب غير المرئيّ، قوّتها الناعمة التي تُعدُّ تعبيرًا عن واقع الحياة وأشكالها الاجتماعية والاقتصادية والثقافيةـ ترصد المزاج العام والحالة النفسيّة لمطلقيها وحراس هذا الفن التلقائيّ من الانقراض. 

الأهازيجُ الشعبيّةُ أو الغناءُ المتوارث في المناسبات الاجتماعية كافة، في صعيد مصر، توضح الحالة المزاجيّة لشريحة عريضة من أهالي الجنوب، وهذا ما تناولته المكتبة العربية في مجموعة من الكتب والدراسات البحثية التراثيّة.

ومنها كتاب "أفراح الصعيد الشعبيّة" للباحث الدكتور درويش الأسيوطي، بجزئيه الأول والثاني، والذي يتناول طقوسًا ونصوصًا كاملةً لاحتفاليات الزواج، والحمل، والولادة والختان، الحج والعمرة.

 تستعرض تاريخ وعادات الموروث الشعبيّ في منطقة صعيد مصر من حيث الزمكان، والطقوس المرتبطة بها كافة، فالبيئة الجنوبيّة زاخرة ب"حواديت" وطقوس لا تشبه غيرها من البيئات سواء الساحلية أو الحضرية.

           صورةٌ مغلوطة

ويستهل المؤلفُ الشاعرُ درويش الأسيوطي كتابه بتصحيح الصورة النمطيّة الشائعة والمفهوم الخاطئ الذي رسّخه الإعلام والدراما المصريّة في ما يتعلق بعلاقة الفتى والفتاة في الصعيد.

حيث يظنُّ البعض أنَّ الشاب لا يرى الفتاة إلا ليلة الدخول بها، ويصوّب الكتاب المفاهيم بتقديم صورة مغايرة، ولكنَّها معبرة عن واقع الحال بأنَّ الفتى والفتاة يظلان في ملاعب الصبا ومواقع العمل حتى تبدأ علامات النضج الجنسي في الظهور على الفتاة، فيبدأ الأهل في التنبيه بضرورة احتجاز الفتاة في البيت صيانةً لها وترغيبًا فيها.

وتكثر اللقاءات بينهما في العديد من المناسبات، فيفند درويش تلك المزاعم بالأسانيد من واقع الحياة 

 

استعرض الكتابُ طقوسَ أفراح الصعيد وعاداتها من الموروث الشفهيّ الشعبيّ المتوارث لأجيالٍ عديدة 

هذه الموروثاتُ من الأهازيج تؤرخ لفنِّ القول التلقائيّ المتماس مع العادات والتقاليد وتفاصيل الحياة اليوميّة، بزخمها والأساطير المنسوجة حولها. 

من أهمِّ ما يميّز الأهازيج أو الفن الشعبيّ الشفاهيّ أنه ليس ابن لحظته الراهنة، ولا هو فنٌّ وقتيٌّ، بل له من العراقة والترسّخ ما يجعله معبِّرًا حقيقيًّا عن أحلام وطموحات أجيال وأجيال.   

ورغم كون فن الأهازيج ثمرة ضرورات العمل وطبيعة الحياة، إلا إنَّه يحتفي بالأسطورة والخرافات، ينسج جسده من الحكي و"الحواديت" المتواترة التي قد تسقط بعض تفاصيلها من ذاكرة الحكّائين؛ فيُجبِرون هذا النقص ببعض الخيال، فيضيفون لها من البهاء والألق ما يناسب عالم الصعيد الساحر. 

تتسم بالمرونة اللائقة بشفهيتها ما يجعلها غير مقيدة، تمارس حريتها على ألسنة تحفظ كلمات مرت عليها أجيال.

التعبيرُ الرمزيُّ للموروث الغنائيّ من دلالات المقاومة الرمزيّة عبر التاريخ الاستعماري للبلاد. 

ويضع درويش تفسيرًا للمرحلة العبثيّة، فهناك مجموعة من الحكايات يطلق عليها "أولها كذب وآخرها كذب" ومنها "قبوح يا قبوح، كلب العرب مذبوح، وأمه عليه بتنوح". 

ومن المؤلفاتِ الجامعة لأهازيج الجنوب، موسوعة الأغاني الشعبية في صعيد مصر لـ"جاستون ماسبيرو"، كما جمع درويش الأسيوطي بعض الظواهر في مجموعة من الكتب منها "لعب العيال، أهازيج المهد، أشكال "العديد" في صعيد مصر" عن فن "العدودة" التي تطلقها النائحاتُ كغناءٍ ميلودراميٍّ شعبيّ، ترثي به النساء موتاهن ويعددن محاسن المتوفى.

وعودة لتصحيح درويش للمفاهيم المغلوطة، يوضح أنَّ بيت الفتاة الصعيديّة لا يُعدُّ معتقلاً، بل لها أن تخرج حال الضرورة، وفي مناسبات وظروف محددة كالأعياد، ولزيارة الأقارب خاصّةً من ليس لديهم أولاد في سن الزواج، كما تخرج الفتاة للمساهمة في العمل.

 

         حارسةُ الأدب الشعبي

وتُعدُّ المرأةُ خزانةَ العادات والتقاليد والحارسَ الأمين للطقوس، ومن الطقوس  النسائيّة المتعلقة بالخطبة، ما يؤكده الأسيوطي بأنَّ المرأة في الصعيد تلعب الدورَ الأساسَ في تقرير الزواج وتحديد شروطه، على عكس ما يُشاع في الأدبيات المعاصرة عن تهميش دورها في المجتمع الصعيديّ، فالقول بهذا جهلٌ بحقائق اجتماعيّة تسود القرية في صعيد مصر.

تناولت المطبوعاتُ الخطبة وما قبلها وفترات التلاقي ومهرجان ملء "البلاليص"، والمفاتحة هي الخطوة الأولى في سلسلة طقوس الزواج، فتبدأ الخطبة بمفاتحة تقوم بها أم العريس أو إحدى قريباتها، وتهدف للتعرف على موقف العروس من العريس، وما إذا كانت ترغب في الاقتران به أم لا. ثم "الزيارة" الأولى فإذا أُعجبت أم العريس بالفتاة، تُطلع الأب على الموضوع وتأخذ رأيه، والرجل لا يملك رفض فتاة اختارتها أم العريس.

 وبمباركة الرجل تحدّد أم العريس موعد "الزيارة" لأمِّ العروس، وفي كلِّ الأحوال ترحب أمُّ العروس بالزيارة، حتى وإن كانت تعلم أنَّ الزواج لن يتم، فالفتاة ترتفع أسهمها في القرية بزيادة عدد خطابها.

 وتقوم أسرة الفتى بتدبير ما يُهدى لأسرة الفتاة، وهو ما يسمّى بـ"النفقة" ويصحبها العريس متّجهًا لبيت العروس، ومتى تم الاتفاق تبدأ "الزفة اليوميّة".

كاحتفال قد يستمر أربعين ليلةً ولا يقلُّ عن أسبوع، وفيه تتجمع البناتُ والنساءُ في مكانٍ متسعٍ من بيت العروس عقبَ صلاة العشاء من كلِّ ليلة، يغنون ويرقصون، وتشاركهن العروس بالرقص والغناء، وفي هذه الفترة يتم شراء الذهب و"الجهاز" مستلزمات العروس "الشوار".

وتبدأ الاستعدادات لليلة الدخلة منذ بزوغ شمس اليوم المحدّد لدخول العروس بيت زوجها، فيتمّ عقد القران، وعمل التحويطة، ودخول العروس بيت العريس، وإحياء ليلة الفرح بأشكال متعددة، فيمكن أن يحيي الليلةَ أحدُ كبار قرّاء القرآن الكريم، وقد يستعان بالغوازي "الراقصات" لإحياء الليلة. وينتقل الأسيوطي لطقوس الولادة والختان.

وأهازيج المهد وأغاني المهاواة والتهنين، وهي أغاني التنويم التي تمارسها النساء كعادات يوميّة لتدليل الرضّع، وتختلف للرضيعة الأنثى عن الذكر، وخاصة حال الرضا عن المولودة الأنثى، فتكون الأهزوجة لطيفة: "لما قالوا دي بنية قلت يا ليلة هنية". وحال رفض ولادتها وكراهة هذا، تقول: "لما قالوا دي بنية، اتهد سقف البيت عليا، وجابو لي البيض بقشره وعليه السمن مياه" 

وبمجرد استقبال المولود ولفّه في قماطه، أو إلباسه ملابسه وإتمام قطع السُرّة، يجب على من حضر، ويُفضل الرجال، كالأب والجد، أن يقوم بالتكبير في أذن المولود اليمنى، ويكون التكبير بصيغة الأذان المعروفة، والإقامة في الأذن اليسرى، والأذان والإقامة في سمع المولود من السنن الإسلاميّة التي يحافظ عليها المسلمون، ويرون أنَّها تحفظ إيمان المولود وتحبب إليه ارتياد المساجد وأداء الصلوات.

والاحتفال بمرور الأسبوع أو "السبوع" بمجموعة طقوس "كحمام السبوع" ويتم بتحميم الطفل في مياه مجلوبة من نهر النيل مباشرةً في الليل، ثم "كحل السبوع" الذي تقوم به واحدة من عجائز الأسرة، وذلك عقب الحمام مباشرة، ويُستخدم كحل الحجر الأسود "الإثمد" في هذا الطقس، ثم تتم تسمية المولود باستخدام زُهرية ورد من بضعة أدوار، وفي الدور الأخير منها توضع مجموعة من الشموع فردية العدد، وتوضع المزهريّة بجوار فراش المولود.

ويتم اختيار الأسماء وإطلاقها على الشموع الكبرى، والشمعة طويلة العمر التي تبقى بعد ذوبان الشموع الأخرى تحمل الاسم الذي يُطلق على المولود. ثم الاحتفال بختان الطفل "الذكر" "الطهور"، والاحتفال به في المرتبة الثانية من حيث الضخامة بعد احتفالية الزواج.

وطقوس وأهازيج الحجاج والمدائح التي تغنيها النساء بمناسبة حجِّ البيت الحرام بمكة وزيارة قبر الرسول -عليه الصلاة والسلام- بالمدينة، وتتميّز بمجموعة من الخصائص الفنيّة التي تشترك فيها مع الأغنيات الشعبيّة الأخرى، بل مع الأدب الشعبيّ عامة، منها بساطة تركيب البنيّة الشعريّة للأغنية، ثبات البنية الإيقاعيّة. الأهازيج والأغاني كالأدب الشعبيّ مجهولة المؤلف، يميّزها التكرارُ اللفظيّ وواقعية المضمون، وجماعية الأداء.

ويتناول الجزءُ الثاني أغنياتِ الحجيج والرسومات على جدران المنازل وخطوات التجهيز للرحلة المقدسة.

وتدبير المبالغ اللازمة لرحلة الحج، فكان المطوّفون من أبناء الحجاز في نهاية أربعينيات القرن العشرين، يقصدون مع الاحتفال بمولد النبي المدن والقرى المصريّة للترويج لنشاطهم الموسميّ، ويلتقون بالراغبين في الذهاب للحجاز لأداء مناسك الحج، وكان السفر حتى نهاية القرن التاسع عشر على ظهور الإبل، ومتى استقر قرارُ الراغب في الحج للقيام بالرحلة، يشتري الراحلة إذا لم يكن لديه راحلة، يربيها في بيته، ومع بداية شهر رجب يبدأ الحجّاجُ المصريون الاستعدادَ للسفر بشراء ملابس الإحرام للرحلة المقدسة.

ثم موكب المسامحة، ويقوم فيه الحاجُّ بإيفاء الناس حقوقهم المادية والمعنويّة، سواء كان من صلة الرحم أو النسب والقرابة والجيران والأصدقاء، وكل خطوة تصاحبها الأغنية الجماعيّة أو أهزوجتها التي تغنيها النساء قبل وبعد الرحلة المقدسة.

 الأهازيجُ ميراثُ الشعوب غير المرئي، وتُعدُّ تعبيرًا عن واقع الحياة وأشكالها الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والمزاج العام والحالة النفسيّة. 

إلى جانب كتاب "عصام ستاتي" عن الفلكلور القبطيّ والاحتفاليات الشعبيّة بالموالد القبطيّة والأديرة والكنائس، ودراما الطقوس ومعجزات القديسين والأدب الشعبي القبطيّ، وما يزخر به من طقوس وأهازيج موازية في صعيد مصر عن الأدب الشعبيّ القبطي، والفن المسيحي المطعّم ببعض آيات من الإنجيل، والأساطير الشعبيّة، ومعجزات السيدة مريم وما صاحبها من معجزة الظهور، والعادات والتقاليد والطقوس المسيحية المناسباتيّة كافة، فترتبط كلُّ مناسبةٍ بأهزوجةٍ فريدةٍ وترنيمات ترددها النساء في مجتمع الجنوب.