عطش..!

حسن كشاف

قاص مغربي

"إلى روحك الطاهرة عزيزي  رضوان كرات، الإنسان وفقط، رحمك الله أيها الزاكوري المتفرد                  

    كان يعلمُ أنَّ هذه الواحة لا بدَّ أن ينضبَ معينُها من الماء في يومٍ من الأيام، مؤشرات ذلك لا تخفى على  غشيم؛ فبالأحرى على من قضى في هذه الصحراء عشرين سنة.

   بات عليه الآن البحث عن مكان آخر يوفّر شربة ماء عند الظمأ، فصار بقاؤه هنا والانتظار مستسلمًا ليس إلا مسألة وقت لا أكثر ولا أقل. كلما جلس يراقب تلك الساقية التي لم تعد سوى رمالًا متشققة إلا اعتمل في نفسه السؤال المتكرّر، مشكّلًا لديه أرقًا يقضُّ مضجعه:

- إلى متى ستعقد يديك هكذا! إلى متى ستجلس عاجزًا عن فعل شيء يفيد الواحة! 

  لم يكن أمامه إلا أن يُحَوِّرَ هذا السؤال صوب أمّه، فَما عاد يطيق سَأْمًا منهكًا للجسد، ممزقًا للأوصال:

- أين أعثر على الماء يا أمّاه؟! إنَّ الأرض والسماء تحالفتا علينا، وصارتا شحيحتين للغاية!!

- آهٍ يا بُني!! لم تكن الأرضُ ولا السماءُ شحيحتين يومًا، جُودُهُمَا ارتوت منه أسلافٌ وأسلاف، بل هو عطشُ البطيخ وجشعه المتزايد؟! فإذا كنت ستلوم أحدًا فلن تجد غير حقول البطيخ المتلهّفة!

هكذا ردت وهي تصدر تنهيدة من الأعماق.

   انهمك يغرس رجليه العريضتين في نَعْلَيْهِ، ولسان حاله: "ما العملُ إذن؟!" ثم وضع في الكيس الجلدي بضع حبات من البلح، ثم أوهم الأمَّ أنَّه اقتسم قربة الماء الوحيدة المتبقية وهو يقول:

- سأجدُ الماء يا أمّي، لا بدَّ أن أجده..

- عُد إليَّ سالمًا غانمًا يا بُني! فأنت شربة مائِي الوحيدة من حياة الظمأ هذه! أرجوك عد إليّ فأبوك.. 

    توقفت عند هذه الكلمة، وكان في جرابها كثير من الدعوات، كانت تريد أن تجعلها مرافقه ومُعِينَهُ في هذه المهمة المصيرية، لكنها ارتكبت ذلك الخطأ، واللسان لا عظم فيه، وعليها الآن أن تتغلب على نحيب حار يقف عند بلعومها، ودموع كان عليها أن تضع أمامها حواجز الصبر والتجلّد لتوقفها عند مقلتيها..

- إلى متى هذا الصمت يا أماه.. إلى متى؟! أعلم أنَّ أبي ذهب للبحث عن الماء هو الآخر، ولم يعد حتى الآن..

عندها فقط انتحبت الأم كما لم تفعل يومًا، وكأنَّها كانت تتوق لذلك كلَّ هذه السنوات، وتذخره ليوم حان موعده..

قَبَّلَ رأسها وَرَبَتَ على كتفيها كثيرًا، وهي تسند ظهرها المهدود بالانكسارات إلى جدار الكوخ المصنوع من سعف النخل وواصلت الانتحاب. 

وقف عند باب الكوخ وقبل أن ينحني منصرفًا، قال:

- دعواتك يا أمّاه..

    خارج الكوخ كان الكلب "جيمي" يجلس على قاعدته مرتكزًا على قوائمه الأمامية وهو يلهث، وما إن رأى سيده يخرج حتى شرع يتلاعب بذيله ذات اليمين وذات الشمال في غبطة وسرور باديين، تأمله "صابر" طويلًا ثم أطرق برأسه؛ إنَّه كلبه المفضل، رفيقه طيلة سنوات ليست بالقصيرة. سرح بخياله يَنْعِي أيامًا حلوة مضت، خُيّلت له كمن يعرض لكَ لوحة لأرضٍ يانعةٍ مشرقة، ثم يسحبها من أمامك بعد إلقائك للمحة خاطفة، قبل أن يطالبك برسمها في تحدٍّ: 

- آه! لا تتوقف عن الرسم! عندها سأخط بدمائي نخيلها ووديان مياهها المترقرقة، مغمض العينين..

   هكذا تمتم وهو يحرك شفتيه في قصورٍ، متذكّرًا اليوم الذي قدم فيه والده راكبًا الناقة، وأمامه تدلّت أرجل "جيسي" الكلبة الشرسة من جانبي الناقة. ما يزال يذكر كيف غمرت السعادة  جوانح والده يوم أنجبت الصغير "جيمي" وكأنَّه ابنه من صلبه. تذكّر لعبه معهما عند النخلة الكبيرة. هذه الواحة التي مُسخت اليومَ شاهدةٌ على مطارداتهم التي لا تنتهي على طول ممر مجرى المياه المتّجه صوب بقية المزروعات.

- ما عادتِ الواحةُ واحةً..

هكذا تمتم وقد غاب بخياله، لولا تذكّره للمياه لبقي هائمًا في ذكرياته طويلًا..

      كانت عينا "جيمي" ما تزال معلقتين بسيده، عندما أخبره هذا الأخير أن يمكث هنا أمام الكوخ، كانا يفهمان بعضهما البعض، لهذا فقد ظلَّ "جيمي" في مكانه ولم يتبع سيده، وهو الذي اعتاد أن يرافقه أينما حلَّ وارتحل. 

     مضى "صابر" يشقُّ طريقه وسط الصحراء، وظلَّ "جيمي" في مكانه يراقب تقدَّم سيّده، ويتمنى لو سمح له بمرافقته، انتفض من مكانه، تتبعه وهو يبتعدُ شيئًا فشيئًا، حتى التهمته الكثبانُ الرمليّة المقفرة، فكّر مرارًا في أن يهرع مقتفيًا أثره، لكنَّها الأمانة، أمّه الآن أمانة في عنقه، عليه البقاء هنا متيقّظًا يحرس الكوخ حتى يعود سيّده مظفّرًا.. 

     لكن مقام "جيمي" لم يطل في حراسة الكوخ، فقد غادره عندما  كفّت الأمُّ عن الحركة، وتجمّدت في سريرها طيلة يومين لا تحرّك ساكنًا؛ علم أنَّ مهمته قد انتهت، وبالتالي شقَّ طريقه في الصحراء يتلمّس سبيل سيّده.

 كانت الزوابعُ الرمليّةُ الهوجاءُ تحجب الرؤية، بينما حالت الرمالُ المتحركة دونه والحركة، أنهكه السعيُّ دون وجهة، قهرته هذه الهضبة الرملية العملاقة، كلما صارع ليخطو خطوةً، كلما زاد علوها امتدادًا، أيقن أنَّه لا يتحرك من مكانه، بل يُجَرُّ جرًا إلى الخلف، وربما كان يُسْحَبُ إلى الداخل.

     أيقن للتو، ولم يعد لديه الشكُّ أنَّ هذه الصحراء تمتصّه شعرةً شعرة، عظمةً عظمة، كما يمتصُّ البطيخُ آخرَ قطراتِ فرشاة المياه، قطرةً..قطرة.. رأسه الوحيدة ظلّت تقاوم السَّحْبَ، بينما يتطلع إلى العلوِّ الشاهق في استسلام..