قيمُ الأعراسِ بين الماضي والحاضر

د. عبدالله مطلق العساف

أكاديمي وباحث أردني

 

يحفلُ مجتمعنا الأردنيّ بالعديد من العادات والتقاليد ومنظومات من القيم والفضائل الأخلاقيّة والاجتماعيّة التي تتوارثها الأجيال المتلاحقة أباً عن جدّ، وتتعلق بكثير من المناسبات المترافقة مع سلوكيات بعضها. يمكن القول إنَّه يتسم بالإيجابيّة وروح التعاون والتفاعل والتعاضد، ما يعكس طبيعة الشيم والسجايا الحميدة التي توفرت لمجتمعنا الأهليّ الأردنيّ واتسمت بالبساطة والعفوية، وتعبّر عن وجدانٍ وعاطفةٍ أصيلة، وتعكس الشخصيّة الثقافيّة والتاريخيّة والأخلاقيّة للمجتمع الأردني، وبعضها الآخر قد يحيد عن هذه الشيم ويتجافى عنها، ما يمكن أن يُعدّ تجاوزًا لقوانين العرف والمنطق، بل وحتى العقل والرشادة المطلوبة، ولا تعبّر عن خاصية التطور والخبرة الإنسانية، مثلما أنَّها لم تعد تتناسب مع طبيعة الظروف والتغيرات التي تصيب الأفراد والمجتمع، نتيجة التطور التاريخي والثقافي والقيمي والأخلاقي، الذي يعتبر سنّة الحياة والأشياء، وذلك دون أن تفقد هذه المناسبات ما يرافقها من سلوكيات قيمتها المادية والنفسية والعاطفية التي وجدت من أجلها سابقًا، هذه القيم التي خدمت أغراضًا ووظائف اجتماعية طالما كان المجتمع الأردني بحاجة إليها، وهو بالفعل لا يزال كذلك. فالتطوّر في أساليب الحياة والمعيشة وما يستتبع ذلك، بالضرورة تطوّر في أنماط السلوك والعادات والتقاليد، لا يعني التنكر لهذه التقاليد الأصيلة، وإنَّما بالأحرى توظيفها بصورة واقعية عقلانيّة، وإعادة دمجها مع قيم وأنماط جديدة فرضها منطق العصر والحياة، ومن ثم إعادة بنائها بناءً جديدًا، وبعث استمرارية الحياة في وظائفها بما يتناسب مع بنية المجتمع وتكويناته المختلفة وظروفه الجديدة.

لقد صاغ المجتمع الأردنيّ بتكويناته المختلفة أنماطًا كثيرة من التقاليد الخاصة بمناسبات الأفراح، ومنها على وجه الخصوص "أفراح الزواج"، ومن هذه الناحية يُعتبر المجتمع الأردني محافظًا وتقليديًّا في هذا الأمر، فقد كانت الطقوسُ المرافقة لمناسبات الأعراس بسيطةً وسهلةً دون تعقيدات في أمور الخطبة والجاهة وحفلات الفرح والتعبير عن ذلك، دون تكلّفٍ وتبذيرٍ لا مبرر له، بيد أنَّ طفرات كبيرة أخذت تشقُّ طريقها في مناسبات الزواج، يمكن القول بأنَّها طفرات مستحدثة تشوه القيمة الاجتماعية والعاطفية والأخلاقية لمعنى الأعراس؛ فأصبحت الأعراس مناسبات لإظهار الوجاهة الاجتماعيّة والتفاخر والتبذير والمضاهاة بين الناس. ولم تبق الأمور كما كانت عليها في السابق، ونقول إنَّه لا ضير من التطور، لكنّنا نتحدث هنا عن طقوس وسلوكيات تبدو مُستهجنة ومستغربة، وتفوق الحكمة والعقل، لأنَّ جزءًا كبيرًا منها أصبح يُتخذ نموذجًا للوجاهة الاجتماعية، وكأنَّ مناسبة الزواج أصبحت يافطة أو عنوانًا للمكانة الاجتماعية، أو مناسبة للتفاخر والتكابر، بل وحتى الرياء والنفاق، فكأنَّنا في ميدان يتنافس فيه الناس، في التنافخ الاجتماعي. الأمر الذي أفقد مناسبات الزواج قيمها الأصلية، ولم تعد المسألةُ تعبّر عن معنى المشاركة في إظهار العاطفة الصادقة، أو التواصل الصادق المبرأ من أغراض الشهرة، أو المجاملات الباردة، أو حتى التعاون وإظهار التكافل، كما هو الحال في مناسبات الزواج التي كانت تجري في مجتمعنا الأردني قبل عقود قليلة. عندما كانت الأعراس وحفلاتها بسيطة وتلقائيّة وغير مكلفة أو مرهقة للجميع. بل إن فلسفة حفلات الأعراس كانت في السابق هدفها يتجلّى في شقين، إظهار الفرح الحقيقيّ بصورة تشاركيّة تنبع من عاطفة حقيقية، ومن ثم تعظيم وشائج القربى والتواصل والمودة والتراحم، ومن جانب ثانٍ إظهار التكافل في صورته الماديّة، بقصد التخفيف عن أصحاب المناسبة. وعدم إثقال كاهلهم بأعباء مادية وغير مادية، تفسد قيمة الزواج فيما بعد، أو أنَّها تكون سببًا في فك عُرى هذا الزواج، الذي نتج عنه أثقال مادية كبيرة.

إنَّ فلسفة البساطة في مناسبات الأفراح عند أبناء مجتمعنا الأردنيّ كانت حتى الماضي القريب، تقترن في كلِّ سلوك أو ممارسة تترافق مع هذه المناسبة، بلا تعقيدات أو شكليات كثيرة تصبح جميعها طقوسًا شكليّة، تفرغ المضمون الجميل الناصع لمناسبة الأعراس.

إنّني في هذا الخصوص أدعو الجميع إلى تمثّل فضيلة البساطة في الأعراس ومناسبات الزواج، في كلِّ مراحلها وخطواتها، وأعلم أنَّ الكثيرين لا يروقهم ذلك، ممن اعتادوا ثقافة اللياقات الاجتماعية المشوهة، لكنّني أرى أنّه لا بُدّ من أن تُحافظ هذه المناسبات على البساطة والتيسير في هذا الأمر والابتعاد عن التكلف والرياء والنفاق الاجتماعيّ.

وهذه الدعوةُ تحتاج إلى ثقافةٍ مجتمعيّة جديدة. وفي هذا الخصوص، فإنّني أتوقف عند بعض الأمور المتعلقة بالزواج والأعراس.

أولاً: أصبح من آفات الزواج وطقوسه، الميل الواضح إلى التعقيد والتكلّف، بدلاً من البساطة والتخفيف، وأقصد هنا غلاء المهور وتبعاتها المرهقة. وهذا أمر أخذت الأمور فيه منحنىً يبتعد عن تعاليم الدين، وأحكام التقاليد والأعراف، والقيم الأخلاقية والاقتصادية. وكأنَّ البساطة وعدم التعقيد أصبحا نقيصة لأهل العروس. فكلما تعاظمت المهور والتكاليف الأخرى المرافقة للعرس، كلما ارتفعت كرامة الأهل والعروس أمام الناس، بصرف النظر عمّا يلحق ذلك لاحقًا من فشل أو فساد للزواج، فالمهم أصبح ماذا يتحدث الناس في المناسبة عن المهر ولوازم الحفل، كأنَّهم يريدون أخذ لقطة تاريخيّة تذكاريّة تمجّد طقوس العرس، وليس الزواج نفسه بما هو رباط مقدس، ومن المهم أن يبقى هذا الزواج مستمرًا أو ناجحًا.

ثانيًا: لقد أخذت تترافق مع حفلات الزواج مظاهر افتخاريّة، تفسد روح المناسبة، وقيمتها ومعناها، وأعني بذلك "ظاهرة النقوط". ومع أنَّ هذه ظاهرة تقليدية قديمة لدى المجتمع الأردني، كانت إلى عهد قريب تعبّر عن التضامن والتكافل مع العريس وأهله، إلّا أنها أصبحت اليوم طقسًا غريبًا وشاذًا، وشابها فسادٌ في الغاية والهدف النبيل، وأخذت معنىً من معاني "القرضة والدين" لجميع الأطراف، لا سيّما حين يرافقها طقوس السجلات والقوائم والتوثيق التصويري، وما إلى ذلك من مظاهر، فكأنّنا أمام مشهد تمثيليّ حقيقيّ. وما يزيد الأمر فسادًا في المناسبة، هو المبالغة في إظهار الكرم أو العطاء، والتفاخر بالأرقام والأوراق النقديّة، هذا فضلًا عن حال الإحراج للكثيرين الذين ليس باستطاعتهم مجاراة بازار التفاخر "والكرم النقوطي" المبالغ في حدوده.

ثالثًا: المبالغةُ الكبيرةُ في مراسم الخطبة والجاهات وحفلات الأعراس ومواكبها، صحيح أنَّ أصحاب المناسبة حريصون على أن يشاركهم فرحهم الأهل والأصدقاء والمعارف، لكن المعهود اليوم هو أنَّ فكرة المشاركة أصبحت لا تستثني أحدًا، قريبًا أم بعيدًا في المكان. سيّما وأنَّ طبيعة الحياة اليوم اختلفت كثيرًا، فالمعارف والأصدقاء، أصبحوا موزّعين في ربوع الأردن كلّه، والحرص على مشاركة هؤلاء جميعًا أصبح ينطوي على مصاعب وأكلاف كبيرة، وإذا أضفنا إلى هذا أنَّ المناسبات أصبحت بدورها كثيرًا، فلنا أن نتخيل حجم التكاليف والمشقة، وما إلى ذلك، وهي تفوق قدرات الناس وظروفهم ومتطلبات حياتهم.

رابعًا: ثمة طقوس انقلابية في الأعراس، وأعني بها هنا المواكب السيّارة، التي ترافق مسار الحفل ومكانه، وهي عادة فضلًا عن كونها مبالغ فيها، فإنَّها تترافق مع تجاوزات كبيرة لحقوق عموم المواطنين في الطريق والشارع، هذا إذا لم ننسى المظاهر السلبية والاستفزازيّة المرافقة لسلوك أصحاب المواكب، والتي ترافقها أيضًا تجاوزات قانونيّة، وأخرى أخلاقيّة. وحبذا لو اقتصرت هذه المواكب على أهل العروسين فقط.

كما أنَّ ثمة ظاهرة أخرى سلبية وخطيرة ترافق حفلات الزفاف، وطالما تحدث الكثيرون فيها، وحتى القانونيون والتشريعيون، فضلًا عن الجهات الحكوميّة الرسميّة، والأخصائيين الاجتماعيين، وهي ظاهرة إطلاق العيارات النارية. وقد يتجاوز حتمًا هذا السلوك مجال الفرح العاطفي، إلى مجال الحماقة، والتبذير الجنوني. فأنت تذهب إلى مشاركة أهل العرس مناسبتهم وفرحهم، فإذا بك تذهب إلى معركة حامية الوطيس، عشرات البنادق والمسدسات يمتشقها أصحاب العنعنات، ويفسدون فيها مظاهر المناسبة، صخبًا وإزعاجًا وإرعابًا، هذا إذا لم يرافق ذلك إصابات بين الناس المشاركين في الحفل. ولا أظنها إلّا سلوكًا بدائيًّا وهمجيًّا في كثير من الأجيال. وحبذا لو يتم تغليظ العقوبات على هذه العادة السيئة.

إنَّني في الختام أدعو إلى العودة إلى الأصالة والبساطة والصدق العاطفيّ والإنسانيّ في مناسبات الأعراس، كما كان شأن أبناء العشائر والقبائل الأردنيّة، وكما كان يفهمها آباؤنا وأجدادنا. ولا يعني ذلك أنّني أدعو إلى تجميد قيم الأردنيين في قوالب صماء جامدة، لا تراعي تطور هذا المجتمع وحيويته، وإنَّما أدعو إلى استلهام القيم النبيلة من تقاليدنا الأردنيّة في هذه المناسبات، وتوظيفها بصورة أفضل في إطار المشاركة المجتمعيّة الفاضلة والرشيدة.