نوافذ ثقافية

 

 

محمّد سلام جميعان

 

وادي الحبيس/ عبد الهادي النشّاش

هذا الكتابُ يتّخذُ من " الأنا" منطلقًا للكتابة. ولمّا كانت السيرة الذاتية تتألف من أشياء وكلمات وأفكار، فإنَّ الذات تحضر هنا بتواضعٍ كبير، فالذات واسطة بين السارد والأحداث. وبالقدر الذي يتحقّق الصدق الشعوري والفني في هذه السيرة، لكن الصدق وحده لا يفي بالغرض، لأن الذات الساردة لا تستطيع سرد كثير مما هو كائن أو ممكن، فيترك للقارئ ظلال الأحداث. وهنا تتشكّل الذات من خلال الخطاب الفكريّ.

تبدو الطفولة ومراحل الحياة التعليمية مُمهِّدات للتكوين، إذ تهيمن على السارد ذاكرة حالمة، تمتدُّ فيما بعد في حيوات حاسمة، تعيد فيه الذات تشكيل نفسها وإعدادها لحياة أكبر؛ وظيفيًّا على صعيد الاندماج والانتماء في مجموع يحمل قضية. وهنا لم تعد الرغبة في التدوين تعظيم الأنا وتمجيدها وإنّما اتخاذها مدخلًا للعبور بالذات من "إنسان العيش" إلى "إنسان القضية".

الجغرافيا الخَشنة التي عاشها السارد هنا تنعكس في القدرة على مواجهة المراحل اللاحقة في مُناخ عقليٍّ ومعرفيّ يتبصّر قضيته على نحو تتعاقد فيه الذات مع تاريخ مرحلة كاملة. محطات كثيرة وتفاصيل مهمّة يتوقف عندها السارد بحيادية في توصيف انطلاق الأحداث على صعيد الفكر والمواجهة، واختزال المراحل بين الوفاء بمتطلبات التعليم ومتطلبات التنظيم، ثم مرحلة بيروت وما بينهما من السجن.

ربما يفتقد القارئ اللغة الأدبيّة، فالمسرود جاء بصورة تقريريّة إخباريّة، فضلًا عن الاكتفاء بذكر الأشخاص الذين عاصروا الأحداث وشاركوا فيها، بكُناهم، أو أسمائهم غير الكاملة. ومع كلِّ هذا يبدو الصدق الواقعي ملمحًا بارزًا في هذه السيرة التي تُعدُّ شاهدًا على مرحلة أكثر منها تعبيرًا عن الذات.

 

     

نسوان 2/1 com   / هند خليفات

 

في كل مجتمع من المجتمعات الإنسانية ما يدعو إلى التهكُّم والسخرية والضَّحك، وفيه ساخرون ومضحكون لهم قدرة على إبداع التعليقات بإدراكات ساخرة متميزة، لمواجهة الأزمات النفسيّة والاجتماعيّة، والتخفيف من وطأة الإحباطات السياسيّة والأزمات الاقتصاديّة.

    وكما لا تتشابه بصمات الأصابع فإنَّ تجربة هند في كتابها هذا لا تشبه أيَّ تجربة ساخرة أخرى، سواء في الموضوع، أو شكله، أو التكنيكات المستخدمة في السخرية. وتكاد النزعة الساخرة لدى هند تنحصر في وعيها الفائق وقدرتها على الكشف عن التفاوت أو التناقض بين الكلمات ومعانيها، وأيضًا تعرية العلاقة بين الأفعال ونتائجها، أو بين المظهر والواقع، وهي في هذا كلِّه تقدِّم خطابًا ثقافيًّا يقوم على أساس من انتقاد الحماقات الأنثويّة والرجوليّة في الأخلاق والسلوك والتفكير، فطبيعة السخرية حتى وإن وصلت إلى درجة التهكم والازدراء فإنَّ غايتها التحذير والتنبيه وإخماد السلوكات الخاطئة، وترسيخ حضور الفرد في الجماعة.

 ويلحظ قارئ الكتاب لجوء الكاتبة إلى أسلوبيّ التورية والمفارقة في استخدام التعبيرات والألفاظ؛ لتوحي أو تدل على معانٍ أخرى غير المنطوق الصوتي الذي تدل عليه، وفي هذا تكمن بلاغة هند التعبيريّة في توظيف دلالات الألفاظ وإسقاطها على الواقع البئيس.

   ومن تمام الظُرف والفكاهة لجوء الكاتبة إلى استخدام المفردات والتعبيرات الشعبيّة المحليّة، ذلك أنَّ استخدام مثل هذه التعبيرات يترك أثرًا نفسيًّا في المتلقي أكثر مما تتركه اللغة الفصيحة، التي تسلب الحديث حُسْنه، وهذه ليست دعوة إلى العاميَّة في الحديث والكتابة، ولكنّها تأكيد لدور اللغة الاجتماعي في بيئتها وزمانها. فالكاتبة تُعوِّل على السياق الاجتماعي للمخاطَبين، وتؤكِّد أهمية إدراك توجّهات العصر وسماته، وتقترب باستخدامها المفردات والتعبيرات العاميَّة من المحليّة.

                           

حصاد السنين/ علي أبو لبن الحَسَني

ما بين الوطنيّ والقوميّ والإنسانيّ تتوزَّع قصائد هذا المجموع الذي اختار صاحبه انتقاء قصائده المعبّرة عن مراحل من حياته وتجربته، فلم يظهر فيه ما فُقِد في ظروف ترحاله، وما فُقِد بفعل فاعل خشية المحاسبة والمُساءلة.

ويتصدَّر هذا المجموع الشعري معالم ومحطات موجزة من السيرة الحياتيّة والشعريّة للشاعر، وبالرغم من إيجازها لكنّها غنيّةٌ بالتاريخ السياسيّ للمرحلة التي عاشها الشاعر الذي تجاوز التسعين سنة من العمر.

الهوامش المفسّرة في ذيل كل قصيدة تحمل كثيرًا من التاريخ السياسيّ والاجتماعيّ الذي يضع القارئ في الجو العام للمرحلة. والقصائد لا تغادر الشكل الكلاسيكي للقصيدة العربية.  غير أن ما ينقذها من تقليديتها هو ما تحفل به من تصويرٍ بيانيٍّ، يصل في القصائد السياسيّة إلى ذروة التحدّي، ويصل في القصائد الساخرة إلى درجة التهكم، فالصورة الكاريكاتورية سمة بارزة في روح الشاعر، الذي بدا مزاوجًا بين النقد السياسيّ والنقد الاجتماعيّ.

 

ثقافة عالمية  

إدوارد سعيد.. أماكن الفكر/ "تمثي بْرِنَن"، ترجمة محمد عصفور

 

إدوارد سعيد مفكِّر مثير للجدل، وقد استعاده تلميذه "تمثي بْرِنَن" من خلال مصادر أرشيفية واسعة منها: كتابات غير منشورة، ومسودات روايته، ورسائله الشخصية، وكذلك مئات المقابلات: العائلة والأصدقاء والطلاب والخصوم على حد سواء.

 ويُبرز "تمثي" في هذا الكتاب السيرة المعرفيّة لإدوارد وأثره، سواء في دراساته الرائد في ما بعد الاستعمار، أو دفاعه عن وطنه فلسطين، ويكشف فيه صورة الناقد الأدبي المثقف، وبمعنى آخر تأثير إدوارد البالغ في الأدب والسياسة والحياة.

وحملت فصول الكتاب العناوين التالية: الشرنقة، عدم الاستقرار، التلمذة في مدارس الصفوة، العميل السري، قبل أوسلو، عقل الأغيار. وقد استقصى برنن( المؤلّف، وهو أحد تلاميذ إدوارد) التأثيرات العربيّة في فكر سعيد. ومع أن سيرة إدوارد منشورة في كتابه "خارج المكان " لكن المؤلف يجتهد في تقديم سيرة معرفيّة، فضلًا عن رسم صورة مؤثرة للسنوات الأخيرة من حياة سعيد التي كان يسابق فيها الزمن لإنجاز بعض من مشروعاته الثقافية المتأخرة والمتراكمة.

وأماكن الفكر هي الأماكن التي صنعت إدوارد سعيد وإشكالاته وقضاياه وصراعه الوجوديّ والثقافيّ والفكريّ، فالمسافة بين الولادة والدراسة ومكان الموت والدفن يكشف حجم حضور المكان في هُويته وفي شخصيته. فالمنفى هي ما يحكم سيرة إدوارد وشخصيته، وهو ما عبّر عنه بقوله: "إنَّ هذا المنفى هو هوّة قسرية لا تَنْجَسر؛ بمعنى ليس هناك جسر يمكن أن يجعلها طبيعية ويمكن أن يحلّ إشكاليتها، هذه الهوّة هي بين الكائن البشريّ وموطنه الأصليّ وبين النفس ووطنها الحقيقيّ، ولا يمكن التغلّب على الحزن الناجم عن هذا الانقطاع، وأياً كانت إنجازات المنفى فإنَّها خاضعةٌ على الدوام لإحساس الفَقْد".

 إدوارد سعيد واجه الغرب بخطابٍ فكريٍّ، حقيقيّ، نقديّ لا مجال فيه للمُتخيَّل بل صاحب نظرية، وأسهم في تشكيل النظرية الثقافيّة والفكريّة على مستوى العالم.