شادي لويس
روائي مصري
في العشرة أعوام الماضية أدمنتُ السفر، وكانت سياحتي دائمًا حافزًا سخيًّا على الكتابة. لكن وفي زياراتي إلى بلدان عربية امتنعت عني الكتابة مهما حاولت استرضاءها، ربما بفعل الألفة مع الأمكنة وناسها؛ تلك الألفة التي تستدعي نوعًا من الدعة المستسلمة. أو لعل السبب هو أنَّ الكتابة عن الترحال هي كتابة على بعد، أي أنَّ كتابة السفر هي لعبة المسافة، المسافة التي يقطعها المرء بعيدًا عن موطن إقامته والمسافة التي يحتفظ بها بينه وبين مكان ترحاله، في كل زيارة لبلد عربي كان من غير الممكن الاحتفاظ بتلك المسافة بيني وبين التورّط. في أحيان يظهر لي أنَّ مرد هذا العجز هو خشيتي من أن الكتابة عن مكان يعرف قرائي عنه أكثر مما أعرف. ومع كل تلك الأسباب مجتمعة كانت زيارتي للأردن استثناءً في هذا الشأن.
في الأسبوع الأخير من أكتوبر الماضي، وصلت إلى عمان لأوّل مرة، في زيارة غرضها لقاء عائلي، لكن سرعان ما غدت ودون ترتيب رحلة سياحيّة، وكانت أيامها الستة هناك كافية فقط للتجوّل في شطر صغير من البلد، في دائرة لا يتجاوز قطرها الساعتين بالسيارة، ومع هذا كانت حافلة بما يبقي في الذاكرة ويحرضها.
في الحي الذي سكنته بالقرب من الدوار الثاني، بدت المدينة مناسبة لشخص مثلي يحب المشي ويجد فيه طريقته المثلى لاكتشاف المدن. انتظام العمود الفقري لتصميم المدينة بدوّاراته المرقمة أضفت قدرًا مريحًا من الاتساق والألفة على أبعادها في مخيلتي، وعلى إمكانات الحركة فيها. وبفضل طوبوغرافيا عمان، تضاعفت متعة التجوّل على الأقدام. ككل مدينة مؤسسة على تلال، احتفظت عمان مع حضريتها بوعورة تنتمي إلى خشونة الطبيعة وإلى الماضي، في تذكير بسياق تأسيسها ولإلحاحه من أجل استيعاب سكانها القادمين من أماكن شتى. وكان أمتع ما في هذا التعايش بين الحضري ونتوءات الطبيعة العنيدة هو تلك الانعطافات غير المتوقعة على أدراج عمان التي قد تقودك إلى باحة منزل دون قصد، أو التي قد تفتح أمامك مشهدًا مسائيًّا مدهشًا لأفق تتلألأ فيه أضواء النوافذ المتراصة كبحيرة من النجوم المدينية.
لا يمكن عقد أي مقارنة بين عمان وبين مدينتي القاهرة، لا في كثافة السكان ولا في مستويات الصخب. كان هذا ما ظننته في أمسيتي الأولى، حتى مررت لاحقًا بالشوارع المزدحمة بالأسواق المحاذية للمدرج الرومانيّ، فوجدت ما يشبه قطعة من القاهرة بضوضائها وطاقتها المحببة والمرهقة. ولم يكن هذا هو التذكير الوحيد بمدينتي التي استحال عليَّ لعدة سنوات لأسباب لا يسرني تذكرها. فلدهشتي، وجدت المتحف الوطنيّ للفنون في عمان يحتفظ بمجموعة متنوعة من الأعمال تعود إلى فنانين من عشرات الدول، من الجنوب العالمي.
أمَّا المبنى المخصّص للفنون الأفريقيّة الحديثة، فحين دلفت إلى مدخله لمحت مباشرة منحوتة للفنان المصري آدم حنين، وفي الدور الأول أول ما استولى على انتباهي كانت لوحة لواحدة من بقرات راغب عياد، أحد الأربعة الكبار في جيل الرواد المؤسّس للفن المصري الحديث، وبجانبها واحدة من أعمال إنجي أفلاطون من فترة السجن، وعلى الجهة الأخرى لوحة لجاذبية سري من مرحلتها الفنية المعرفة بمرحلة المنازل، وفي القاعة نفسها وجدت لوحات لبهجوري والأخوين وانلي، ولوحة كبيرة لمحمد ناجي أحد الرواد الأربعة.
بعيداً عن القاهرة، وباستثناء الدوحة و"أبو ظبي"، لا تتوفر مثل تلك المجموعة الهائلة من الأعمال لعشرات من الفنانات والفنانين المصريين، والتي تغطي مدى زمنيًّا واسعًا من أول جيل الرواد إلى نهاية عقد التسعينيات. كانت تلك مفاجأة لم أتوقعها، وبدت بهجتها كافية لو كان هذا كل ما سأخرج به من عمان.
وبالقدر نفسه من الإعجاب، خرجت من زيارتي إلى "متحف الأردن". عادة ما أكون متحفزاً في زياراتي للمتاحف الوطنيّة، فما بتنا نعلمه أن المتحف ليس مجرد مكان لحفظ التحف وعرضها، بل واحد من مراكز إنتاج الهُويات الوطنيّة وتصفية حسابات التاريخ لصالح سرديّةٍ بعينها موحّدة ومتسقة بشكل اصطناعي، ولذا تقمع وتمحو كل ما يعكر صفو تلك الوحدة. في ذلك، عادة ما تخفي المتاحف أكثر مما تعرض. إلا إنَّ المتحف الأردني، والذي لحسن الحظ يُعدُّ معاصرًا جدًّا بحسب تأسيسه في العقد الماضي، يظهر متصالحًا مع حداثة تأسيس الدولة في الأردن والتاريخ المضطرب للمحيط الجغرافيّ من حوله. وبدلاً من السرديات الخطيّة الموغلة في القدم المعتادة في المتاحف الوطنيّة، يحتفي متحف الأردن عبر مقتنياته ونصوصه وتجهيزاته التفاعلية، بطبقات من التاريخ وتأثيرات متنوعة ومتداخلة من حضارات الجوار، احتفاء بالتنوع والانقطاعات وبالأردن الحديث كمكان لتعايش ديموغرافيات متباينة وتواريخ متنافسة.
*****
على بُعد ساعة من العاصمة الأردنيّة، ربما أطول من الساعة قليلًا أو أقصر قليلًا. غادرنا شوارع عمّان المزدحمة بالعبور إلى أفق الصحراء، لم يكن هناك الكثير مما يلفت النظر إليه، باستثناء مزارع صغيرة للموز متناثرة وسط الرمال. وبالقرب من وجهتنا، وصلتني الرسالة النصيّة من شبكة هاتفي البريطانيّة: "مرحباً بك في إسرائيل"، ومعها لائحة بكلفة إجراء المكالمات وتبادل الرسائل النصيّة. لم نكن قد وصلنا الحدود بعد، إلا إنَّ الدوائر التي ترسمها أبراج الجوال في الجانبين، لا تلتزم بدقة بالخرائط، والناحية الأخرى تبدو قريبة جدًّا، أكثر من اللازم. كان هذا تذكيرًا بأنَّ فلسطين على مرمى حجر.
حين وصلنا إلى منطقة "المغطس"، كان علينا الترجّل من السيارة، قيل لنا إنَّ المنطقة عسكرية. وبحسب الكتاب المقدس، كانت تلك بريّة الأردن التي اعتزل فيها يوحنا المعمدان، وعلى حدودها تعمّد المسيح. وانتظرنا الباص مع السائحين الآخرين. كان بعضهم من السياح الأوروبيين، والبعض الآخر كان من الصعب التكهن بهوياتهم. وجلس شاب من هؤلاء بجانب مضيفي في الباص، وبدأ حوار صغير معه بالإنكليزية، وخمّنا من اللكنة أنها إنكليزية مخلوطة بالعبرية، وتحيرت قليلاً لماذا يأتون إلى المغطس من تلك الجهة، وليس من الناحية الأخرى.
عرفنا لاحقًا بأنَّنا كنّا مخطئين بشأن لكنة الشاب الإنكليزية، فثقلها لم يكن مصدره العبرية، بل السريانية. التف عدد من النساء والفتيان وتحدثوا بها وهم يتبركون بمياه النهر، كانوا من مسيحيي العراق، وكنت أودُّ لو أسأل إن كانوا في زيارة للأردن، أم أنَّهم ممن نزحوا إليها بعد الاحتلال الأميركي لبلدهم، لكنني لم أسأل.
ترجلنا مرة أخرى، فالباصات لا تذهب أبعد من تلك النقطة، وكان علينا السير على الأقدام حوالي عشر دقائق، ومن بعيد رأينا منارات ثلاث كنائس متجاورة، بدت جميعها شاهقةً على خلفية الصحراء المنبسطة، وأخبرنا المرشد بأنَّ واحدةً هي كنيسة للأرمن والأخرى لوثرية، أما الأخيرة التي لم ينته تشييدها منذ عقد ونصف العقد فهي قبطية، فأعدت النظر إلى برجها وبدا معمارها القبطي المألوف أكثر وضوحًا، ولم يستطع المرشد الإجابة عن سؤالي حول أسباب تعثر أعمال الإنشاءات.
كان مشهد المغطس على غير ما توقعت، حوض صغير بعمق بضع سنتيمترات. وفي الجوار، انتصبت لوحة رخاميّة تصوّر بابا الفاتيكان بصحبة العائلة الملكية الهاشمية. أمَّا نهر الأردن نفسه، فكان على مسافة خمس دقائق، وأخبرني مضيفي بأنَّ ضفاف النهر كانت تصل إلى المغطس قبل تحويل إسرائيل مياه بحيرة طبرية. وبرغم الأسى احتفظ المشهد بكثير من قداسته.
في الكتاب المقدس، لنهر الأردن مهابته، إنَّه أقدس الأنهار، النهر بألف لام التعريف. وخالجتني مشاعر متضاربة حين وقفت على ضفته، ونزلت وغطست عدة مرات.
في اليوم التالي، ستصطحبنا صديقة أخرى إلى جبل "نيبو"، وقبل أن نهم بالصعود، ستصلني رسالة نصيّة على هاتفي: "مرحباً بكم في فلسطين". هنا، وبحسب التوراة، وقف موسى ونظر إلى أرض الموعد من بعيد ولم يدخلها. وفي الطريق مررنا بعدد من المواقع المرتبطة بقصص العهد القديم وبعضها الآخر بالرهبانيات المسيحية المبكرة. أريحا كانت على بعد عشرين دقيقة منا بالسيارة، وقفت وتجولت بعيني في الأفق المنبسط، وتذكرتُ الخرائطَ الملوّنة في الطبعات العربيّة للكتاب المقدس، ودروس مدرسة الأحد عن ممالك بني عمون وموآب والأموريين، ولحظتها خطر لي أنَّ رحلتي تلك كانت وكأنَّها رحلة على خارطة للكتاب المقدس.