محمود منير
صحفي أردني
تصدّرت وسائلَ الإعلام ووسائطَ التواصل الاجتماعي في الأردن صورُ الاعتداء على أحد أعمدة مدينة جرش الأثريّة، في الثامن من أيار الماضي عبر رشّه باستخدام الطلاء، ما تسبّب بموجة رفضٍ واستنكار من قِبل العديد من المواطنين الذين طالبوا بتركيب كاميرات في جميع أنحاء المكان، وتشديد الحماية الأمنية، وتغليظ العقوبة على المخرّبين.
تشوّهات سوداء اللون تمّت معالجتها على نحو أوليّ، لكنَّها تفتح النقاش حول إعادة النظر في سرديّة التراث الأردني، التي لا يمكن إغفال أنَّ حكاية التخريب جزءٌ منها، وبالتالي يجب أن يعكس فعل الترميم مقاربة أعمق تجاه التاريخ في اللحظة الراهنة، ويصبح لزامًا طرح قضايا عديدة تتصل بحضور الإنسان في مكانه على مدى آلاف السنين.
يتفق أستاذُ النقوش الساميّة ولغات الشرق القديم الدكتور عمر الغول مع هذه المقولة، بتأكيده أنَّ "سرد قصة المكان الأثري ليست مسألة انتقائية"، ويعيد التذكير بتخريبٍ سابق طالَ بوابة هادريان (قوس النصر) في جرش عبّر عن انحياز صاحبه لأحد أندية كرة القدم الأردنيّة، والتي تشكّل عنصراً من عناصر هُوية المكان اليوم.
ويوضّح أنَّ توثيقَ حادثة الاعتداء ضروريٌّ ويمكن البناء عليه في اتجاهين؛ الأول تصويره فوتوغرافياً وتضمينه في سجلّ يحتوي الاعتداءات التي وقعت على آثار مختلفة على امتداد الأردن، باعتبارها تسجيلاً حيًّا لذاكرتها المعاصرة بعيدًا عن أيّة تصورات مثالية حولها، والثاني إبقاء التخريب على حاله وإحاطته بإطار زجاحيّ بحيث لا يسمح بمزيد من الاعتداء، ليغدو شاهداً على العلاقة مع المكان يستفاد منه في شروحات الآثاريين والأدلّة السياحيين عند تعريفهم به، لبناء سرديّة صغرى لا تنفصل عن سرديته الكبرى.
أمَّا أستاذُ حضارات المشرق العربي القديم هاني هياجنة، فاستعاد أمثلةً مشابهة وقعت في ألمانيا حين أُبقي على آثار القذائف على جدران "متحف بيرغامون" ببرلين، والتي تعود إلى الحرب العالمية الثانية، رغم أنَّه كان يمكن ترميمها، وظلّت آثارُ القذائف باقيةً على أحد المباني المقابلة للمتحف كذلك، وبالمثل تعاملوا مع مبنى البرلمان الألماني (الرايخستاغ) الذي يقع بالقرب من سور برلين، وبدأوا ترميمه عام 1989 تاركين الخربشات التي تملأ جدرانه، وتتضمنّ شتائم خطّها السوفييت عند احتلالهم العاصمة الألمانية، لتظلّ شاهدًا على التاريخ.
وقياسًا على ذلك، يفترض هياجنة أنَّ إبقاء الكتابات على عمود مدينة جرش سيكون أثراً بعد إحاطته ببيت من زجاج، ثم تنظّم رحلات مدرسية للطلبة، ومثلها لبقية أفراد المجتمع، لتوعية الناس بالتخريب بمنع تكراره وربطه ببعد تربويّ ووطنيّ، وسيراها السياح أيضًا فكرة خلّافة، طالما أنَّه يستحيل إزالة التشويه نهائيًّا، إنَّما يتم تغطيته بالطين.
الترميمُ صلة بين الماضي والحاضر
زاوية نظر مغايرة تنسحب على إعادة تأهيل الآثار وليس تخريبها فقط، إذ إنَّ الترميم قد يذهب في اتجاه غير مطلوب، بحسب الغول الذي يشير إلى "التحسينات" المتمثّلة بتبليط السيق في البتراء بذريعة الفزع من روث الحيوانات التي كان يصعب تنظيفها قبل ذلك، ما يثير الاستنكار... إن كان الملك الحارث الرابع الذي حظي بمهابة كبيرة قد اعترض على الأمر في عصره، أو في افتراض أنَّ زائر المكان قد أبدى انزعاجه من تلك الأوساخ.
حديثٌ يحيلنا إلى القيمة الأساسيّة وراء تسويق التراث سياحيًّا وتكمن في نسج حكايته في إطار رواية تستعرض تاريخ الأردن في أزمنته المتعدّدة والمتنوعة، وليس مطلوبًا إظهاره لمّاعًا وبرّاقًا بصورة تُخرجه عن سياقه التاريخيّ، وحتى عن صورته المتخيلة في ذهن السائح.
هنا، لا يغفل الغول الجدل حول ترميم الآثار الذي يفرض أحيانًا تمييز الجزء المرمَّم عن غير المرمم بلون أو هيئة مختلفين، مبينًا أنَّ آثار الماء لا تزال باقيةً على جدران مواقع أثرية في إيطاليا على سبيل المثال، بينما قام المرمّمون لقصر عمرة بإخفاء أثر الاحتراق الذي تسبّب به إشعال سكّان المنطقة للنار داخله من أجل التدفئة، أو الثقوب الذي خلّفها رصاص بنادقهم في السقوف.
هل المطلوب سرد قصة المكان كما تركه الخليفة الأموي الوليد بن يزيد؟، أم قصته على مدار ألف وثلاثمئة سنة ماضية؟ وما الذي نريده من تاريخ آثارنا؟ وكيف ننظر إلى علاقتنا بالماضي وبالحاضر أيضًا؟ أسئلة تتطلّب وفق الغول إجابات لا يقترحها المرمّم وحده، إنَّما تحتاج إلى وضع رؤية شاملة من خبراء التراث الحضاريّ.
تشكيلُ روايةٍ خاصة لتراثنا
يأخذنا الموضوع إلى مراجعة التحقيب الغربي لتاريخ الأردن والمنطقة العربية مجدّدًا، والذي استوى على تقسيمه إلى ثلاث حقب: تاريخ قديم، ووسيط، وحديث ومعاصر في النصف الأول من القرن التاسع عشر، ليعتمده المؤرّخون العرب منذ ذلك الوقت، دون الانتباه إلى أنَّ الأوروبيين صاغوه انطلاقًا من وعيهم بتاريخهم، وتمّ تعميمه لاحقًا على العالم بأسره.
لا يعتقد هياجنة بأنَّ هناك إشكالية في التحقيب الزمني نفسه، إنَّما في تصنيف الشعوب والجماعات البشرية في كلّ حقبة، والتي لا يمكن تحديدها إلا عبر الآثار واللقى والدليل التاريخيّ، لا كما فعل علماءُ الآثار الأوروبيون منذ القرن التاسع عشر في بعثاتهم للتنقيب في المنطقة، محاولين إثبات ما أورده العهدُ القديم من روايات حولها، كون هؤلاء جميعًا كانوا لاهوتيين ويدرسون الآثار في كليات اللاهوت، إلا إنَّه يؤكد أنَّ صورًا جديدة حول تاريخ منطقتنا تقدّمها المكتشفات المستجدة التي تغيّر طريقة التفكير تجاهه، وتعيد تفسير النقوش والعديد من النظريات والطروحات، وبالتالي تشكيل الرواية الخاصة بنا.
على الرغم من ثراء "متحف الأردن" وتنوّع محتوياته، إلا إنَّه يغيب في التعامل معها مسألتان مهمتان كما يرى الغول؛ الأولى تتعلق بإظهار الإنسان في بؤرة العرض المتحفي، وأن لا يتركز القصُّ أو السرد التاريخي على المباني بشكل مجرد، بحيث يعرض البيت التراثي كجزء من تفاعل الإنسان الأردني مع بيئته، وكذلك بالنسبة إلى معاصر الزيتون وغيرها من المعالم الحضارية، والثانية تتمثل بالاستمراريّة وهي متصلة بالفكرة السابقة حين عاش الإنسان في هذه المنطقة وهو يحاول أن يتكيّف مع البيئة؛ ليؤمن عيشه ورفاهيته وتواصله مع الآخرين.
وتتصل بإيقاف تقطيع السرديّة الأردنيّة وفق المنظور الغربي، الذي يفصل كل حقبة تاريخية عن أخرى، حيث يلفت الغول إلى أنَّه في الوقت الذي كان فيه سكان منطقة بلاد الشام وشبه الجزيرة العربية متفاعلين خلال جميع العصور القديمة والحديثة، وكانوا حاضرين ومؤثرين في جميعها، فالإنسانُ الأردنيُّ وريث كل العصور السابقة وامتداد لجميع أسلافه الذين عاشوا في المكان.
ولفهم تراكم ذلك الإرث وتشابكه، يمكن العودة إلى مثالٍ قد يغيب عند قراءة تاريخ الأردن، حيث برز الشاعر "ميلياغروس بن يوكراتيس" ابن مدينة جدارا (أم قيس حالياً) خلال القرن الأول قبل الميلاد، والذي ينتمي إلى الحضارة الهيلينية التي قامت في رودوس وكيوس وكريت وغيرها من جزر أرخبيل اليونان حتى عام 344 قبل الميلاد، حين أسّس الإسكندر المقدوني إمبراطورية هيلينستية في الساحل السوري والمصري، وحُكمت من قبل أبنائها، في تمازجٍ لغويٍّ وثقافيّ وديموغرافيّ أيضًا.
خلاصة يثبتها ما دوّنه "ميلياغروس" على شاهد قبره في نصٍّ يرد فيه "إن كنتَ أيها الصديق سورياً، أحييك تحيّة سورية، وإن كنتَ فينيقياً، أحييك تحيّة فينيقية، وإن كنتَ يونانياً أحييك تحيّة يونانية، حيِّني بمثل ما أحيّيكَ به"، بحسب ما أورده الباحث محمد علي الصويركي في كتابه "الشاعر ميلياغروس بن يوكراتيس - أمير شعراء سورية في العصر الهيلينستي اليوناني - ابن مدينة جدارا – أم قيس".
يُضاف إلى فهم ذلك التداخل الحضاريّ بين أثينا وشرقي المتوسط الذي احتضنت مدنه العديد من الفلاسفة والأطباء والمعماريين والشعراء خلال الحكم اليونانيّ، ضرورة استيعاب تاريخ الأردن بشكل متصل دون أيّة انقطاعات حضارية تنتج عن فجوات معرفية ينبغي تجسيرها، كما ينبّه الخبير المعتمد لدى اليونسكو في حقل التراث الثقافي غير المادي هاني هياجنة إلى تلك المفارقة التي تكمن بأنَّ الأردنيّ قد يعرف تراثه قبل سبعة آلاف سنة، لكنّه لا يمتلك الاطلاع الكافي على تراثه قبل سبعين عاماً، أو قرن مضى.
وفي هذا السياق، يذكّر بأنَّ الثقافة اليونانيّة بُثّت روحها في مناطق مختلفة من دون أي يكون هناك احتلال عسكري، وكانت قادرة على جعل سكّان تلك المناطق يهضمونها ويصبحون جزءًا فاعلًا فيها، ومنهم أهل منطقة بلاد الشام الذين بنوا صروحًا أثريّة لا زالت قائمة لليوم، إذ كانت الإدارة فقط لليونانيين، الذين شهد عصرهم ثنائيّة لغويّة، إذ ظلّ أهل الشام يتحدّثون الآرامية جنبًا إلى جنب مع اليونانيّة.
استراتيجيةٌ لتنمية التراث وتسويقه سياحيًّا
كما يدعو هياجنة إلى إعادة رسم هذه العلاقة مع التراث القريب من خلال استراتيجية وطنية لا تقوم عليها فقط وزارة السياحة والآثار بل بالشراكة مع جميع القطاعات الرسمية والمجتمع المحلي، ولا تهدف فقط إلى تقديم سرد تاريخي مجرّد، إنَّما تؤكد على أن من صنع التراث كانوا أجدادنا في الأردن وبلاد الشام، في جميع العصور سواء النبطية واليونانية والرومانية والعربية والإسلامية وصولاً إلى الوقت الحاضر.
ولإنجاز هذه الأهداف، يقترح إنشاء متاحف في الأردن للمجتمعات البدوية والحضرية والريفية تسهم في رسم العلاقة الوجدانيّة بين الناس وبين الموجودات المتحفية التي يمكن أن تشكل مصدرًا للدخل الوطني، وإيجاد شراكات مع القطاع الخاص؛ في إطار الصناعات الثقافيّة والإبداعيّة من شأنها أن تحقّق توازنًا بين الحفاظ على التراث الوطنيّ بشكل عام، والترويج له وتقديمه لأغراض الدراسة والبحث وبين الربح.
ويختم هياجنة بالتأكيد على وجود إمكانات تراثية هائلة على صعيد الآثار والتاريخ والطبيعة قابلة للاستثمار سياحيًّا، دون أن يكون فيها نوع من التسليع الضار بالتنمية، إذ يمكن مثلًا تقديم "قلعة مكاور" بالقرب من مدينة مادبا لتكون مقصدًا لحجِّ المسيحيين من جميع أنحاء العالم، بيد أن المعضلة تكمن في القائمين على السياحة، فالكثير منهم ليسوا مؤهلين من أجل وضع خطط حقيقيّة وباقية.