إبراهيم علي أبو رمان
كاتب وباحث
عندما نتذكّرُ نهر عمان الذي كان مفعمًا بالحياة والأشجار على اختلاف أنواعها تملأ ضفافه، نتذكر بحسرةٍ التغيير الذي جلبته المدنيّة الحديثة؛ من ازديادٍ للعمران الذي أدى إلى جفاف المنابع له، وزيادة السحب من المياه الجوفية، حيث كان يوجد بئر تُسحب المياه منه لكي تغطي الحاجات المتزايدة للسكان، والذين تضاعفت أعدادهم في الفترات الأخيرة، فبعد أن كان سكانها لا يتعدون عدة آلاف وأغلبهم من الشركس الذين وطّنتهم الدولة العثمانية في المنطقة بعد هزيمتها أمام القيصريّة الروسيّة في القرن التاسع عشر في المنطقة، وذلك لأنَّها قريبةٌ من مصدر المياه، ولا زالت المنطقة تحمل مسمّيات تعود إليهم؛ فأحياء الشابسوغ والقبرطاي وحي المهاجرين، سكانها من شركس القوقاز.
ونعود إلى نهر عمان الذي قامَت عليه حضاراتٌ وأممٌ، ذكره ياقوت الحَمويّ قائلًا: ” نهرٌ عظيمٌ، غزيرُ المياه، وفيه سباعٌ كثيرةٌ مذكورة بالضراوة، وتكثر حوله النباتات الملتفة وأشجار القصب".
وأُطلقت عليه تسمياتٌ عديدة؛ ففي أيام تجارة قريش مع الشام أُطلق عليه "منطقة أُسود الزرقاء"، أمَّا الصليبيون فأطلقوا عليه "نهـر التماسيح"، وكذلك أطلق عليه الرومان "نهر التمساح"، أمَّا الفرس فقد أطلقوا عليه "سـيل التماسيح".
وقال المقدسي في كتابه: "أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم"، أنَّ عمان واحدةٌ من ضمن ثلاث مدن تشبه مكة، حيث يقول: "رأيت لها ثلاث نظائر: عمّان بالشام، وإصطخر بفارس، وقرية الحمراء بخراسان". وقد جاء ذكر عمّان في كتب أدب الرحلات العربيّة، فقد ورد في كتاب "معجم البلدان" لياقوت الحموي، أنَّ الأحوص بن محمد الأنصاري، قال فيها:
أقول بعمّانٍ وهل طربي به إلى أهل سلعٍ إن تشوقت نافعُ
أصاحِ ألم تحزنك ريحٌ مريضةٌ وبرقٌ تلالا بالعقيقينِ لامعُ
كان هُنا نهرٌ، وكانت تربط ضفتيه جسورٌ بدائيّةٌ صُنعت من الخشب، شكّل شريانًا لحياة المدينة وسببًا للاستقرار فيها، ولكنّها الحداثة أسقطته مضرجًا بالإسفلت والإسمنت.
سيلُ عمان، كان في يوم من الأيام نهرًا حقيقيًّا، لكن لا شيء يدلُّ على وجوده الآن؛ سوى فتحات تصريف مياه الأمطار في الشارع، والتي تنبعث منها في الصيف روائح كريهة، يضطر أصحاب المحلات إلى تغطيتها بالكرتون وقطع قديمة من السجاد.
شارع «سقف السيل»
نهر عمان، أو نُهير عمان، أو سيل عمان، كلُّها مسمّياتٌ لمجرى مياه شُيّدت حواليه الحضارات، وعاش على ضفافه العمونيون والرومان، كانت الأسماك تسبح فيه، والأشجارُ وارفةٌ من حوله، كان غزير المياه في السابق، وبسبب قلة اهتمام السكان في المحافظة على الموارد المائية، وبفعل البناء على أطرافه، أدى ذلك إلى جفاف نبع رأس العين الذي كان يشكّل بداية انطلاق النهر الصغير إلى مصبه في نهر الزرقاء، مرورًا بعين غزال التي كانت تغذّي مياهه، ليشكّل رافدًا قويًّا لنهر الزرقاء الذي تغذيه أوديةٌ قادمةٌ من الشرق من منطقة الضليل.
ضعفُ جريان المياه في النهر أدى إلى مكرهةٍ صحيّة، مما حدا بالجهات المسؤولة عن المدينة إلى البحث عن طرقٍ للحل، فكانت الفكرةُ الأسهلُ هو سقف مجرى السيل، وحينها زادت المساحة في قلب عمان، ولكنَّ مجرى السيل ضاع، وصار عبّارةً عن العبّارات الصندوقية للمياه، بينما على سقفه شُيّدت عمارات ومحال تجارية وأسواق؛ ليتحوّل سقفُ النهر الذي كانت المياه تتدفق غزيرةً في مجراه، باعثةً الحياة في الأشجار التي تحفّه على الجانبين، إلى مسرحٍ إسفلتي يعرض حركة السيارات والصخب، وسط غابة من المباني الإسمنتية التي تخنق جانبي الطريق.
من «سبيل الحوريات» إلى مدينة الجفاف
سبيل الحوريات
سبيلُ الحوريات هو "نيمفيوم" يقومُ على جانب السيل في وسط عمان، يعود إلى الفترة الرومانيّة في القرن الثاني الميلادي، كان حِمّامًا على قدرٍ عظيم من الفخامة. يحتوي على ثلاث حنايا، وطاقات صغيرة نصف دائرية أيضًا، حيث رُتّبت في صفين يعلو أحدهما الآخر. كانت الواجهةُ الداخليّةُ لسبيل الحوريات مغطاةً بألواح الرخام، بينما حوض السباحة كان واسعًا ويمتدُّ على طول البناء، وبعمق 26 قدمًا، وفوق حوض السباحة أُقيمت الحماماتُ والنوافير، والأعمدة التي يبلغ ارتفاعها عشرة أمتار. ولم يبق في هذا اليوم من سبيل الحوريات سوى برجين والآثار المتبقية بينهما.
بعد أن خبا نجم مدينة عمان قديمًا، تحوّل سبيل الحوريات إلى "خان" ينزل فيه المسافرون وتأوي إليه دوابهم.
وبعد أن عادت الحياةُ إلى مدينة عمان، أخذ الناسُ يبنون المساكن بصورة عشوائيّة، وكما يبدو في الصورة أعلاه، بدأت الأبنية تتداخل مع بعضها البعض في جوانب سبيل الحوريات.
المدنُ القديمةُ كما هو معروف كانت تقوم على ضفاف الأنهار أو بالقرب من مصادر المياه الدائمة، ومدينةُ عمان قامت الحياة فيها على مصدر المياه وهو السيل، حيث أُطلق عليها حين أُنشئت في العصور السحيقة «مدينة المياه». والمياه أيضًا كانت أحد أهم الأسباب لإعادة تأسيسها في العصر الحديث. وعمّان البعيدة عن البحار والبحيرات عُرفت منذ القدم بالعدد اللانهائي من عيون المياه التي تتفجّر من بين تلالها السبعة. عيونٌ كانت تكفي سكانَ المدينة حاجتهم وتتيح للفائض أن ينساب عبر وديانها نهرًا.
كان النهرُ لسكان المدينة وغُزاتها في الماضي طقسًا ونمطَ حياة. فعلى إحدى ضفتيه، وتحديدًا عند نقطة التقاء مياه ينابيع رأس العين مع مياه ينابيع شارع الملك طلال (حاليًّا)، وينابيع شارع السلط (حاليًّا)، شيّد الرومان في القرن الثاني الميلادي، «سبيل الحوريات»، وهو مكان للاستحمام والاغتسال.
"سيرة مدينة"
هي روايةٌ كتبها "عبد الرحمن منيف" الروائيّ السعوديّ الذي عاش في الأردن في حقبة الأربعينيات، تكلّم فيها عن سيل عمان؛ ذلك النبع الغزير الصاخب، كما يصفه عبد الرحمن منيف، ويضيف: «ليس هناك أروع ولا أخطر من منظر هذه المياه، خاصّةً لمن يراها لأول مرة. إنَّها تتدفق بغزارة، وكأنَّ أحداً يدفعها، بل أكثر من ذلك، تضحك وهي تندفع، وتضحك بطريقة أقرب إلى العربدة، فها قد بدأت رحلتها البرَّاقة الحافلة في هذه الحياة!!، بعد أن طال سجنُها وانتظارُها في باطن الأرض».
ويرصد منيف مشهدًا لفيضان النهر في أربعينيات القرن الماضي، والذي كان يعرف الغضب عندما ينهمر المطر غزيرًا، ويعجز مجراه عن تصريف المياه، فيزداد عرضه رويدًا. وكما يصفه منيف" يغادر سريره ليطغى على البساتين حوله من الناحيتين."
يومَها كانت ساحاتُ عمّان وأسواقها تتحول إلى بحيرة، طغت المياه على المتاجر وأغرقتها، وكما يبتهل الناسُ في أيام الجفاف إلى الله لينزل المطر، ابتهل العمّانيون إلى الله ليوقف المطر، ويُلجِم النهر الغاضب. اليوم، في زمن اللانهر، لا يعرف العمّانيون سوى الابتهال إلى الله لينزل المطر الذي يأتي شحيحًا، وينتهي به المطاف إلى الجريان في شبكات الصرف الصحي. يعطش العمانيون كلَّ عام، ينتظرون دورهم لوصول المياه عبر الشبكات المتهالكة.
الجفافُ
التغيّراتُ المُناخيّة، وتراجع سقوط الأمطار؛ أديا إلى زيادة الاعتماد على المياه الجوفـيّة التي أصبـحت مطارَدة نتيجة الزيادة الهائلة في أعداد القاطنين في المدينة.
عمّان، لم يزد عدد سكانها على ستين ألفًا في أربعينيات القرن الماضي، وفقًا لإحصائيات رسميّة، وكانت مياه المدينة تكفيهم وتفيض نهرًا. وفي أعقاب نكبة 1948، ومع دخول اللاجئين الفلسطينيين، بدأ الضغط على المياه، وبدأت المدينة تعرف العطش. ثم عمقت المشكلة هجرة الوفود إلى المدينة من المدن الأخرى والأرياف والمناطق البدوية، فراح العطش يزيد مع زيادة عدد قاطنيها، والذي يربو اليومَ على المليونين ومئتي ألف نسمة، وفق أرجح الإحصائيات.
تآمر الإنسان على نهر عمّان الذي كانت تغذيه المياه الجوفية عندما أقدم العمانيون على استيطان سفوح الجبال التي طُرّزت سريعاً بالإسمنت والإسفلت. وهو ما وقف حاجزًا أمام تغذية المياه الجوفية التي تتناقص وفقًا لدراسات وزارة المياه والري بمعدل متر سنويًّا. غاص النهر في النسيان، بفعل عوامل أربعة؛ التغيّرُ المُناخي، والزيادةُ السكانيّة، وزيادةُ الطلب على المياه، والنمطُ العمرانيّ. عمّان لم تعد مدينة المياه، وخجلًا لم يطلق عليها حتى الآن مدينة العطش أو الجفاف!
عمانُ التي صوّرها عبد الرحمن منيف في سيرة مدينة، "غابةً كثيفةً من أشجار الحور والصفصاف والكينا، وغير بعيد عنها أشجار الصنوبر، تطوّقها أسلاك شائِكة، ووسط هذه الأسلاك الشائِكة بوابة حديدية، كانتَ خضراء في فترة سابقة، تظل مغلقة طوال أيام الأسبوع، عدا نهار الجمعَة. ما إن يدور المفتاح في هذه البوابة حتى ترتج وهي تستدير لتفتح ببطء. إذا فُتحت، وتنحّى الحارس جانباً وأذن للناس بالدخول، تهب الرطوبة ورائحَة المياه، ومع كل خطوَة إلى الأمام تزداد الرطوبة ويضجّ صوت الماء، حتى إذا تم قطع مئة خطوة نصبح في المياه المقدّسة!".
عمان في الأربعينات ويبدو فيها السيل غزيرًا بالمياه.
فإذا كانت المياه أصل الحياة، وعلى ضفاف الأنهار والبحيرات قامت المدن، فإن مدينة "الحب الأخوي"، كما سُمّيت عمان قديمًا، أو فيلادلفيا كما شاع اسمها، لم تخرج عن هذه القاعدَة. أكثر من ذلك أُطلق عليها اسم مدينة المياه، حين أُنشئت في العصور السحيقة، وكانت المياه أيضًا أحد الأسباب لإعادة تأسيسها في العصر الحديث.
من "رأس العين" تبدأ الخطوات الأولى للرحلة، فالنبعُ الغزير الصخّاب، بعد أن يُعطي عمّان ما تحتاجه من مياه – تدفع إلى الحاووز الكبير في أعلى الجبَل – يصبُّ في بركة كبيرة، وهذه البركة العميقة الرجراجة تمد لسانًا لا يلبث أن يصبح مجرى للنهر الذي يبدأ من هنا، ليقطع الوادي كله بين التلال والجِبال، مستقبلًا في رحلته كمًّا متزايدًا من المياه التي ترفده من الينابيع الكثيرة على جانبيه، ويواصل النهرُ رحلته إلى أن يلتقي بنهر الزرقاء، حين يتّحد الاثنان فيتابعان رحلتيهما الرائعَة ليصبا في نهر الأردن.
يبدأ النهر رحلته -إذن- من رأس العين، ويسير من الغرب إلى الشرق، مستقيمًا في معظم المسار، إلّا عندما يضيق الوادي، أو تتصخر الأرض، فيضطر عندئذِ لأنَّ ينعطف قليلًا، مشكّلاً حوامات هنا وهُناك.
على ضفّتي النهر، وبعد سوق الحلال الكبير مباشرةً، تبدأ البساتين بالظهور، بين البساتين وعلى مسافات متباعدة- نسبياً- تقوم البيوت، وكان سكانها في الغالب من الشركس. فإذا تابع النهر سيرَه ووصل إلى قرب طلعة المصدار، وهناك كانت تقوم الطواحين على الضفتين، ثم أنشئ جسر المهاجرين، يصبح السكان مزيجاً من الشركس والعرب، من المسلمين والمسيحيين، كما يلتقي هناك الشارع الهابط من الجنوب، من مصدار عيشة، بشارع المهاجرين، ومن هذا الموقع يبدأ سوق التجار الذي يمتدُّ بموازاة النهر، على ضفته اليسرى.
تستمرُ البساتين على الضفتين بجانب النهر مباشرة، لكن تصبح صغيرة، أقرب إلى الحواكير المحيطة بالبيوت. فإذا انعطف النهر قليلاً في مساره، وأخذ يقترب من بستان ودار جواد بك؛ فيشكّل في ذلك المكان نصف دائرة، كما يغدو واسعًا عميقًا، ليصبح أول مسبح لأطفال عمان، علاوةً على ذلك أن هذا الموقع من أكثر المواقع التي يحتمل وجود السمك فيها.
يواصل النهر رحلته بعد ذلك ليمرّ تحت جسر الحمام، ونظرًا لطبيعة الأرض والكثافة السكانية والأبنية فإنه لا يُرى بوضوح، كما كان الحالُ في مشواره من النبع حتى الجسر. فإذا تجاوز سوق السُّكّر بخطوات، وقبل أن يصل إلى سوق الخضار بقليل، ينفجر نبعٌ من الضفة اليسرى، كان هذا النبع غزيرًا باردًا، ومنه كان يُسقى السوق كله، ومنه كان السقَّاؤون يحملون بالقِرَب كمياتٍ كبيرةً إلى أمكنة بعيدة جدّاً.
بين سوق الخضار وجسر العسبلي، كان يقوم جسرٌ صغيرٌ آخر، وكان بعض الأطفال يقفزون من أعلى هذا الجسر إلى المياه العميقة، لذلك يعتبر هذا المكان المسبح الثاني لأطفال عمان. وحين يوالي النهر سيره إلى جسر العسبلي، مقابل المدرج الروماني، وكان هذا أقدم الجسور وأهمها. ولما كانت المدرسة العسبلية وفندق فيلادلفيا يشغلان الضفة اليمنى، فإن الضفة الأخرى التي تصبح عميقة من حيث كثافة المياه، ومنخفضة بالمقارنة مع مستوى الشارع فوقها، فإنَّها تغري حتى الكبار بالسباحَة، وهكذا يكون في عمان ثلاثَة مسابح!
بعد الجسر مباشرةً تكثر من جديد الخضرَة والبساتين على الضفة اليمنى من النهر، إلى أن يصل المسلخ ثم جسر المحطّة، وهُناك ينفتح الوادي، وتتسع الضفتان، لتبدأ البساتين بكثافة أكثر مما كانت عليه وسط المدينة أو في طرفها الغربيّ.
وإذا كانت عمّان – المدينة قد بدأت من جسر المهاجرين غرباً، لتكاد تنتهي تقريباً عند جسر العسبلي، عدا بعض البيوت المتباعدة شرقاً، ولما كان الطابعُ الشركسيُّ قد ميّز غرب المدينة، تحديداً بالقرب من النهر، فإنَّ الطابع ذاته وإن يكن بنسبة أقل، يميّز شرقها، خاصة الشابسوغ. أمَّا في الوسط، في السوق التجاري وما حوله، فإنَّ الطابع العربيّ، المتعدد والمتنوّع، هو الغالب، وربما الوحيد.
نبعُ عين غزال- بذلك التدفق الغزير، بالصفاء، وأيضًا بالسحر الذي يتركه في قلب كل من يراه، خاصّةً في مثل ذلك الصباح الربيعيّ البارد- يجعل الإنسان على يقين أنَّ الحياة بدأت هنا، ومن هذا المكان كانت خطوات الإنسان الأولى، وفي هذا الموقع تم اكتشاف أوّلِ الأصوات العذبة والأشكال الرائعة والألوان التي تتغير كل لحظة، حينما تطل الشمس ويتراجع الضباب، وحينما تتداخَل الخضرةُ مع انعكاسات بريق الجبال المحيطة.
قد لا يكون هذا المكان هو الأجمل في الكون، والنبع قد يكون الأصغر من ينابيع كثيرة في هذا العالم – وهو بالفعل هكذا – لكنَّ أيًّا من تلاميذ العسبلية لن يرى أكثر منه رسوخًا في الذاكرة، وربما لن يشرب أعذب من مائه، وقد لا يكتشف أكثر جمالاً ورهبةً منه.
تصبح الأشجار في الرصيفة وحتى الزرقاء أكثر كثافة وأكثر جمالاً، وتصبح أشجار الفاكهة أكثر من الأشجار الأخرى. كما يغدو الطريق بالباص أو بالقطار أليفاً ناعماً، حتى إذا بدت الزرقاء من بعيد، فإنَّ أبرز ما يُرى منها الخضرة التي تنعطف ويصبح لها مسار جديد مختلف، حين يلتقي النهران وقد جاء كل واحد من اتجاه، ويُرى أيضًا قصرُ شبيب، القابع على رأس التل والمكتفي بعزلة أرادها، أو فُرضت عليه، بعد أن زال مجده، ولم يعد سوى ذكرى من ذكريات الماضي.
مشوارُ نهر عمّان بين المنبع والمصب قصيرٌ، لأنَّ الأنهار ليست -دائِماً- بأطوالها، كما أنَّ الأنهار كالبشر، ليست لها طبيعة ثابتة أو سوية واحدة. وإذا كانت لهذا النهرِ ملامحُ متشابهة أو متقاربة في ثلاثة فصول: الربيع والصيف والخريف، فإنَّه في الشتاء نهر آخر.
تلك هيَ كلمات منيف، التي لم أصدّقها إلا عندما أثبتت لي الجدّة ذلك!، فقارن بين الماضي والحاضر، ولنصيح على مجد النهر، النهر الذي مات (سيرة مدينة ص220 )
من تاريخ مدينة عمان
يرجع تاريخُ مدينة عمّان إلى الألف السابع قبل الميلاد، وبهذا تُعتبر من أقدم مدن العالم المأهولة بالسكان إلى يومنا هذا. وعمّان مدينةٌ قديمةٌ أُقيمت على أنقاض مدينة عُرفت باسم "ربّة عمّون" ثم "فيلادلفيا" ثم "عمّان" اشتقاقًا من "ربة عمّون"، واتخذها العمّونيون عاصمةً لهم. وقد أُنشئت المدينة على تلالٍ سبعة، وكانت مركزًا للمنطقة على ما يبدو في ذلك الوقت، وهي إحدى عواصم بلاد الشام الأربع، وهي أيضًا إحدى المدن الشاميّة القديمة التي أصبحت عاصمةً لإمارة شرق الأردن ومن ثم المملكة الأردنية الهاشمية بعد استقلالها في العام 1946 عن بريطانيا.
وقد مرّت عليها حضاراتٌ عديدة دلّت عليها الآثار المنتشرة في أرجاء المدينة. وخلال هذه الفترة الطويلة، شهدت المدينة الكثير من الحضارات، كان أهمَّها العمونيون. يُعدُّ المدرج الرومانيّ أحدَ أكبر الآثار المتبقية في المدينة. كما يدلُّ جبل القلعة بآثاره المختلفة على الحضارات العمونيّة والإغريقيّة والرومانيّة والبيزنطيّة والأمويّة، بالإضافة إلى "رجم الملفوف" الواقع في جبل عمان، والمطل على وادي صقرة، فهو ما تبقى من حضارات فترة ما قبل التاريخ لعبّاد الطبيعة وعناصرها؛ كالشمس والقمر والنجوم.
لقد قَدِم إلى عمّان الحيثيون والهكسوس، ثم قبائل العماليق الأقدمين، تلاها العمونيون، الذين أعطوا المدينة اسمهم فأطلقوا عليها في البداية اسم "ربة عمّون"، والربة تعني العاصمة أو دار الملك، ثم سقطت مع مرور الزمن كلمة ربة وبقيت عمون، حتى أطلق عليها الأمويون اسم عمّان. اتّخذ العمونيون جبل القلعة مقرًا لحكمهم في المدينة، وهو مشرفٌ على وسط عمّان حاليًّا.
سيطر الإغريقُ البطالمة على المنطقة بما فيها ربة عمون، التي أبدل اسمها بطليموس الثاني عام 285 ق.م إلى اسم "فيلادلفيا"- ويعني "مدينة الحب الأخوي"؛ نسبةً للقائد "فيلادلفيوس" وجعل من جبل القلعة موقعًا للمعابد كجبل الأكروبولس في أثينا. انتعشت في هذا العهد منطقة عراق الأمير، نسبة لقصر الملك طوبيا المعروف بعراق الأمير، أو قصر العبد. انقسمت عمان لتصبح جزءًا من الدولتين النبطيّة والسلوقيّة، إلى أن استولى عليها الملك الروماني "هيرودس" في العام 30 ق.م. وبهذا تدخل المدينة العهد الرومانيّ ومن ثم البيزنطيّ حتى منصف القرن السابع.
وامتد العهدُ الرومانيّ ثم البيزنطي من 63 - 636. وأصبحت المدينة جزءًا من حلف الديكابولس تحالف المدن العشر؛ وهو تحالفٌ كان يضمُّ عشرَ مدن تقع اليوم في الأردن وسوريا وفلسطين. لقد أُعيد بناءُ فيلادلفيا أيام الحكم الرومانيّ لتشمل المدرجَ وشوارعَ مرصوفة وأعمدة على الطراز الرومانيّ. أيام الحكم البيزنطيّ كانت مقرَّ الكرسيّ المسيحيّ وبُنيَت الكثيرُ من الكنائس، ولكن المدينة لم تعد مزدهرةً كما كانت. وقد وصلها الفرسُ في عام 614م وأعادوا احتلالها، لكن حكمهم كان قصيرًا وفيها نزلت سورة الروم على رسول الله (صلوات الله وسلامه عليه)، وانتهى حكم الفرس والروم عندما وصلت جيوش المسلمين.
العمال أثناء سقف سيل عمان
بعد أن سُقف السيل، وشُيّدت العمائر، أصبح شارع سقف السيل يحمل اسمًا جديدًا هو شارع قريش، لكن المنطقة لا زالت تعرف باسم سقف السيل، وحين أُهمل تنظيف العبّارات الصندوقية أسفل منه، التي كانت تعتبر التصريف الطبيعي لمياه الأمطار، وبما أنَّ الأمطار قد تهطل بكميات غير متوقعة، حدثت عدة فيضانات فيها، وألحق ذلك أضرارًا بالتجار في منطقة "سقف السيل"، حيث كانت المياه تخرج من فتحات التهوية نتيجة لانسدادها وإهمال تنظيفها وصيانتها.
ذاكرةُ عمان تبدلت، من سيلِ ماءٍ كان يبعثُ الحياةَ في السكان، حوله الأشجارُ والبساتين، إلى منطقةٍ مليئةٍ بالحركة والسيارات وأصوات الباعة والصخب، فوق نهيرٍ مسقوف.