الجَامعُ القَديمُ بِمَاليه

تُحفةٌ مِعمارية تَحكي تَاريخ الإِسلام في جُزر المَالديف

 

أ.م.د/ محمد أحمد عبد الرحمن عنب

أستاذ الآثار والعمارة الإسلامية- كلية الآثار- جامعة الفيوم

Maa25@fayoum.edu.eg

يُعتبر الجَامع القَديم بِمَاليه أَحد رُموز العِمارة الإِسلامية بِجُزر المَالاديف؛ وَيَتمتع بِأَهمية تَاريخيّة وَحَضاريّة كَبيرة؛ فَهو يَحكي تَاريخ اعتناق الجَزيرة لِلإسلام، وَلِذا يَتمتّع الجَامع بِمَكانةٍ كَبيرة في نُفوس أَهل الجَزيرة، وَيُعدّ هَذا الجَامع آية مِن آَيات الفن المِعماري وَصَرحًا مِعماريًا وَتَاريخيًا لا نَظير لَها، وَيَتميّز الجَامع بِنُقوشه الكِتابية المُتنوِّعة وَمَنحوتاته الحَجرية المُميَّزة، وَنَظرًا لِقِيمته الكَبيرة فَقد أُدرج ضِمن قَائمة اليُونسكو لِلتُراث العَالمي المُؤقّت عَام2008م كَمِثالٍ فَريد عَلى فن العِمارة وَالثَقافة البَحرية.

 

المَوقع؛  يَقع الجَامع بِمَدينة مَاليه عَاصمة جُزر المَالديف، وَأصل كَلمة المَالديف مِن مَقطعين؛ (مَحل) أي مَكان، (دِيفا) أي (جَزيرة)، وتَذكُرها كُتب التُراث بِصيغة(مَحل دِيب) وَحّرفها الغَربيون إلى Maldives( )، وَكانت تُعرف قَديمًا باسم(جَزائر ذَيبة الْمَهَل)؛ وَالمَالديف هي أَحد الجُزر المُرجانيّة الوَاقعة في جَنوب قَارة آسيا بِالجَنوب الغَربي مِن الهِند عَلى بُعد640كم مِن جَزيرة سِيلان وَتطلُّ عَلى المُحيط الهِندي، وَكانت تَتبع قَديمًا جَزيرة سَرنديب(سِريلانكا)، وَيَزيد عَدد جُزرها عَلى ألفي جَزيرة تَتوالي بِشَكلٍ طُولي، وتُعتبر جُزر المَالديف أحد عَجائب الدُنيا كَما قَال عَنها الرحّالة المَغربي ابن بَطوطة والذي زَارها وَعَمِل قاضيًا بِها عَام1343م؛ وَيَقول عَنها أَحد الشُعراء:

مَــلْدِيفُ يـَـاحُلم الزَمـان الغَــافي يــَادُرة الغَوَّاض في الأَصـــدافِ

أَنتِ التي إخْتَرْت دِيـــنَ مُــــحمَّدٍ وَتَــركتِ طَوْعًا بَـاطل الأَســلافِ

مَــنَح الإِلـهُ مـُـواطنيك طَـــبيعةً رِقِـرقـراقةً كـَالسَلـسلبيلِ الصَـافي

وَخَلا مِن الحَرب الضَّروس سِجلُّهُمْ فَـغَدوا عَديمي المَثل في الإِنصاف

   

وَتُعتبر مَالَيهMalé عَاصمة جُزر المَالديف، وَهي أَكبر جُزر مَجموعة المَالديف وَتُعرف بِجَزيرة المُلوك( )، وهي مِن أَشهر وَأَهمّ المُدن السِياحيّة العَالميّة، ومِن أهمّ أَماكن الجَذب السِياحي في المَالديف؛ حيث تَضمّ العَديد مِن المَعالم التَاريخيّة، وَالمَواقع التُّراثيّة.             

 

 

المَالديف وَالإِسلام؛ لقد حَكمت الصِين جُزر المَالديف قَديمًا، ثُم وَقعت تَحت حُكم إِمارات غَربي الهِند، وَكَانت البُوذية هي الدِيانة الرَسمية، وَلقد وَصل الإِسلام إليها حَوالي عَام189هـ/804م عَن طَريق التُجّار العَرب الذين كَانوا يَفدون لِتِلك الجُزر، وَيُعتبر الشَيخ الحَافظ أبو البَركات يُوسف البَربري المَغربي مِن أَهم الشَخصيات في تَاريخ جُزر المَالديف، فيُنسب إليه نَشر الإِسلام بِالجُزر عَام548هـ/1153م( )، وَيَذكر ابن بَطوطة عَن إِسلام المَالديف عَلى يَد الشَيخ أبي البَركات البَربري( ) قِصةً طَريفة؛ حيث كَان يَعتقد أَهل المَالديف بِوجود رَوحٍ شِريرة يَنبغي أَنْ يُقدِّموا لَها ضَحية كُل شَهر عَلى مَذبح مَعبد مَالَيه كَي تَرضى عَنهم وَلا تُلحق بِهم َالدَمار، فَما كَان مِن الشيخ أَبي البَركات الذي أَراد أنْ يُثبت لِلنَاس عَمليًا فَضل الإِسلام وَعَظمته فَأخذ مَكان الضَحية عَلى المَذبح وَظَلّ يَقرأ القُرآن طَوال الليل وَالنَاس يُحيطون بِه في خَوفٍ، وَعِندما انقضي الليل بِسَلام وَتَلاه أَيام أُخرى وَأُخرى وَلم يَحدث شَئ مِما كَانوا يَخشونه مِن خَراب، اعتنق سُلطان البِلاد المَعروف بـ(درمس كويمالا كالو) الإسلام وتسمّى باسم(مُحمد بن عبد الله) وَأُعلن الإسلام دِينًا رَسميًا لِلمَالديف عَام548هـ/1153م بِفَضل الشيخ أَبي البَركات الذي يحتل مَكانةً كَبيرة بِنُفوس المَالديفيين ويَفتخرون بِوجود قَبره في العَاصمة مَاليه، وَيُعتبر مَزارًا سِياحيًا مُهمًا( ).

مُنشئ الجَامع وَتِاريج الإِنشاء؛ مُنشئ الجَامع الحَالي هو السُلطان إِبراهيم اسكندر الأَول ابن السُلطان مُحمد بن عِماد الدِين الأَول وَالذي حَكم في الفترة ما بين(1648-1687م)، وَقد وَضع حَجر الأساس لَه في شَهر شَعبان1066هـ/1656م واستغرق البناء حَوالي عَام واحد؛ وَكَان الفَراغ مِنه في1068هـ/1658م، وَقد تَمّ بِناء الجَامع في البُقعة نفسها التي كَان يَشغلها الجَامع القَديم الذي بَناه السُلطان مُحمد بن عبد الله؛ أول سُلطان مُسلم لِلمَالديف، وَالذي قَام بِبِناء هَذا الجَامع بَعد اعتناقه الإِسلام عَلى يَد الشَيخ أبي البَركات عَام548هـ/1153م( ).

أَهمية الجَامع وَمَكانته الحَضارية؛ تَكمن أَهمية مَسجد مَاليه كَونه أَقدم وَأَكبر المَساجد الجَامعة في المَالديف، فَهو أِول المَساجد المُشيّدة بِالجَزيَرة بَعد اعتناق الإِسلام، وَيَتميّز بِطِرازه المِعماري وَزَخارفه وَنُقوشه الرَائعة، وَيُعتبر الجَامع أَبرز أَمثلة مَساجد الجَزيرة المَبنية بِالحَجر المُرجاني والذي يُعتبر مَادة البِناء الأَساسية لِعَمائر جُزر المَالديف، وَيُستخرج الَحجر المرجاني مِن الشِعاب المُرجانية؛ وَهو عِبارة عن كَائن مَائي بَسيط يَبني مَأواه اعتمادًا عَلى العَناصر التي يَتكون مِنها مَاء البَحر، وَيَتكوّن المُرجان مِن مَادة كَربونات الكَالسيوم، وَقد استغله الإِنسان في البِناء، ويُعرِّفه العَالم العَربي التِيفاشي(580-651هـ/1184-1253) بِقَوله؛ (المرجان مُتوسط بين عَالمي النَبات وَالجَماد، وَذَلك أَنّه يُشبه الجَماد بِتَحجُّره، وَيُشبه النَبات بِكَونه أَشجارًا نَابتة في عُقر البَحر، ذَوات عُروض وَأغصان خُضر مُتشعِّبة قَائمة، وَالعِلة في ذَلك امتزاج الحَرارة بِالرطوبة فَهو يُشبه المَعدن بِجَسده وَيُشبه النَبات بِرَوحه)( )، وَيُعتبر البِناء بِالأَحجار المرجانيّة مِن أهم مَلامح التُراث المِعماري وَالحَضاري لِجُزر المَالديف وَالذي تميّزت بِشِعابها المُرجانية بِأَلوانها المُتعدِّدة، وَقد استخدمه المِعماريون في بِناء الأَساسات وَمَداميك الجُدران وكَمَادة رَابطة كَالمُونة.

 

وَيُذكر أَنّ السُلطان إِبراهيم اسكندر الأول أمر جُنوده بِجَمع وَإِحضار الحَجر المُرجاني بِمُختلف جُزر المَالديف لِوَضع أَساسات الجَامع والذي يَتميّز بِأنّه مَبنيٌّ عَلى قَاعدة حَجرية مُرجانية رَائعة، كَما بُنيت به جُدرانه وَأساساته( ).

الوَصف المِعماري وَالفَني لِلجَامع؛ لقد وَصف الرحّالة والملاّح الفِرنسي فَرانسوا بِيرارد دي لافالFrançois Pyrard de Laval هَذا الجَامع خِلال زِيارته لجُزر المالديف في الفَترة 1602-1607م؛ أَنّه مَبني مِن الحَجر المَشغول المُترابط وَله جُدران سَميكة وَمُحاط بِسُورٍ( )، وَتَبلغ مِساحة الجَامع240م2، وَيَتم الدُخول لِلمَسجد عَبر ثَلاثة مَداخل مُرتفعة، وَيَدور حَول الجَامع ثَلاث زِيادات مِن جِهاته الشَمالية وَالجَنوبية وَالشَرقية، وَيَتكوّن المَبنى الرَئيس لِلمَسجد مِن ثَلاثة أَقسام؛ القِسم الرَئيس هو إِيوان القِبلة يَليه صَحن الجَامع ثُم مُؤخر الجَامع، بِالإضافة إلى قَاعتين لِلسُلطان وَحَاشيته، وَيَفصل أقسام الجَامع جُدارن مِن الخَشب المَطلي الجَميل، وَيَتميّز إيوان القِبلة وَالذي يُعرف بِقَاعة الصَلاة بِوُجود مِحراب وَمِنبر، وَيَتميز الجَامع بِالسَقف الخَشبي المُقبّب المُرتفع وَالمُتدرِّج، وَيَرتكز السَقف عَلى أَعمدة من الحِجارة المَلساء المَنحوتة يَعلوها تِيجان عِبارة عن قِطع مِن الخَشب المَنحوت بِأشكالٍ هَندسيةٍ مُميّزة وَتأخذ شَكل الزَهرة الرُباعية( ).

 

وَيُعتبر المسجد مُجمّعًا مِعماريًا؛ حيث يَضم عَددًا مِن المُلحقات المِعمارية المُميّزة؛ فَيُوجد بِالجِهة الجَنوبية مِن سَاحة الجَامع الخَارجية مَقبرة السُلطان إِبراهيم اسكندر الأول والتي يُزخرفها شَريطٌ من الكِتابات العَربية المَنحوتة بِشكل بارز ونَصّها؛ (تُوفي سُلطان إبراهيم اسكندر لَيلة الخَامس عَشر مِن رَبيع الآَخر في السَحر وَدُفن يَومها وَهو يَوم الجُمعة الكَريمة سَنة ثَمان وَتَسعين بَعد الألف)، كَما يُوجد بالجِهة الغَربية مَجموعة مِن المَقابر الخَاصة بِالأُمراء وَالسَلاطين الذَين حَكموا الجَزيرة، وَقد نُحتت تِلك المَقابر وَزُخرفت بِزخارف وَكَتابات بَديعة، ومن مُلحقات الجَامع المُهمة ثَلاثة آبار مُخصَّصة لِلوضوء بُنيت مِن الحَجر المُرجاني( ).

   

وَمِن المُلحقات المُهمة لِلمَسجد المِئذنة؛ وَهي مِئذنةٌ رَائعة تُوجد بِسَاحة الجَامع الخَارجية، وَهي مُشيَّدة بِالحَجر المرجاني المَطلي بِاللون الأبيض، وَهي عِبارة عَن بُرجٍ اسطواني الشَكل يَتكون مِن جُزئيين؛ الأَسفل وَهو الأَكبر؛ مُستدير الشَكل َيُزخرفه شريط مِن الكِتابات العَربية المُميّزة بِاللون الأَزرق نَصها؛ (بِسم الله الرَحمن الرَحيم، الله أكبر، إلى آخر الآذان (مَنارة اسكندر بَناها الخَامسة وَالثَمانين بَعد الأَلف مِن هِجرة سَيد البشرية لا اله الا الله محمد رسول الله)، وَالجُزء الثَاني أصغر في الحَجم والارتفاع، وَيُؤطِّر قِمة كِلا الجُزئيين إطارٌ نِحاسيٌّ لِلتدعيم، وَتمّ إِضافة دَرابزين حَديدي لِقمة المِئذنة( ).

   

مَسجد مَاليه؛ سِماتٌ مِعمارية وفَنية وَنُقوشٌ كِتابية رَائعة: يَتميز الجَامع بِطرازه المِعماري الفَريد الذي يَجمع بين التَأثيرات المَحلية القَديمة وَالتَأثيرات الإِسلامية التي تَعكس السِياق التَاريخي وَالجُغرافي لِلجَزيرة وَالرَوابط الثَقافية والحَضارية القَديمة لِها( )؛ فَالجَامع يُشبه في تَصميمه المَعابد القَديمة بِالمِنطقة، كَما استُخدمت أَنقاض المَعابد البُوذية القَديمة في بِناء الجَامع؛ كَالأَعمدة وَبَعض الكَرانيش وَالأَفاريز، وَيَتميّز الجَامع بِبعض التَأثيرات الصِينية وَالمَغولية الهِندية، وَينفرد الجَامع بِزَخارفه الفنية الرَائعة وَالمُنفَّذة بِالنَحت البَارز عَلى الحَجر والخَشب مَابين الزَخارف النَباتية وَالهَندسية وَالكِتابية المُتشابكة.

 ويَضم الجَامع سجلاً حَافلاً مِن النُقوش الكِتابية المُتنوِّعة التي تُزخرف جُدران الجَامع الدَاخلية وَالخَارجية وَالمَقابر المُلحقة وَبَدن المِئذنة؛ وَهي مُنفَّذة بِاللغتين العَربية واللغة المَالدِيفية القَديمة التي تُعرف بِلغة الدِيفيهىDHIVEHI؛ وهي مَزيجٌ مِن اللغة السِنسكريتية(اللغة الهِندية القَديمة، وَاللغة السِنهالية(لُغة الأَكثرية في سِيرلانكا)، وَاللغة العَربية، وَلِهذه النُقوش أَهمية كَبيرة؛ لِما تَحمله مِن دَلالاتٍ تَاريخية وَمَضامين حَضارية مُهمة عن تَاريخ دُخول الإسلام لِلجَزيرة، وَمَعلومات عَن الجَامع الأَصلي الذي أُسس في البُقعة التي يَشغلها الجَامع الحَالي اليوم، وَتَاريخ الإنشاء، وَأسماء مَنْ قَاموا بِعِمارته وَتَجديده، بِالإضافة إلى بَعض الآَيات القُرآنية وَالأَحاديث النَبوية الشَريفة.

  وَمِن أَهم هَذه النُقوش؛ النَقش التَأسيسي لِلمَسجد وَالمُنفّذ بِخَط النَسخ عَلى لَوحةٍ خَشبية بِالحَفر البَارز، يُؤكِّد بِناء الجَامع الأَصلي عَلى يد السُلطان محمد بن عبد الله عَام548هـ/1153م، وَتذكر اسم الشَيخ أبو البَركات البَربري الذي يَرجع إِليه الفَضل في نَشر الإِسلام بِالجَزيرة، وَهذا النَقش المُهم مَحفوظ اليَوم بِالمُتحف القَومي بِمَاليه.

 أخيرًا؛ فَإنَّ الجَامع بِمَاليه تُحفةً مِعماريّة تَعكس بِصدق مَلامح العِمارة وَالفُنون الإِسلامية بَجُزر المَالديف، ويُؤرِّخ لِبداية اعتناق أهل الجَزيرة لِلإسلام.