د. معاذ عليوي
كاتب وباحث فلسطيني
مقدمة:
يُعدُّ البحثُ العلميُّ المقوّمَ الأساس لبناء أيِّ مجتمعٍ من المجتمعات ونهضته؛ لما له من دورٍ فاعلٍ في تربية العقول الناشئة على التفكير النقديّ الإبداعيّ البنّاء، الذي عُدّ سببًا رئيسًا لنهضة المجتمعات والحضارات وازدهارها عبر التاريخ. وبفضل التطوّر العلميّ والتكنولوجيّ المتسارع الذي أدى إلى تحسين جودة التعليم؛ سواء أكان للمدرسة أو الجامعة، وما تبعه من إدخال تحسينات في مسارات العملية التعليميّة كافة، بحيث انتقل من المسار التقليديّ إلى المسار الحديث، والذي اعتمد في غالبيته على التطوّر التكنولوجيّ العلميّ والمعرفيّ المحوسب، بدلاً من التلقين الذي كان سائدًا ومنتشرًا كفلسفة تدريسيّة تعليميّة تقليديّة لدى العديد من الأساتذة والأكاديميين عبر مسارات التاريخ المختلفة. وعلى الرغم من الإيجابيات التي أحدثتها العولمة بشأن التعليم؛ إلا إنَّ طريقة تناولها واستعمالها من قبل الطلبة والباحثين والأكاديميين كان سلبيًّا في غالبية الأحيان؛ خاصّةً فيما يتعلق بالبحث العلميّ، حيث إنَّ العديد من الطلبة والباحثين يفتقرون إلى المنهجيّة الأساسيّة في كتابة البحوث العلميّة الرصينة؛ ممّا يلجأون إلى السرقة العلميّة التي يعدونها وسيلةً للوصول إلى مبتغاهم ومرادهم في كتابة رسائلهم العلميّة كالماجستير والدكتوارة، أو الأبحاث التي يسعى إليها بعض الأكاديميين للحصول على ترقيّة علميّة وما شابة ذلك، ممّا يضطر أحدهم إلى اللجوء إمَّا إلى سرقة بحث وترجمته، أو الاستعانة بأحد طلابه، سواء كانوا طلاب ماجستير أو دكتوراه، أو يستعين بمراكز بحثيّة لكتابة بحوثه مقابل عائدٍ ماديّ، دون أن يتحمل أدنى درجات العناء والمشقة البحثيّة، وما ينطوي عليها من بحث وكتابة علميّة تكون من نتاجه الفكريّ الذي سيكون يومًا عاملًا مهمًّا في بناء وتطوّر مجتمعه، وإضافة علميّة لنفسه وجامعته التي يعمل بداخلها.
في هذا الإطار سوف نستعرض في هذه المقالة عدة محاور لعلَّ أهمها: مفهوم السرقة العلميّة، والعوامل التي أدت إلى انتشارها، وكيفية الحد منها، نظرًا لأهميّة الظاهرة وما تنطوي عليه من مخاطر أكاديميّة جمّة، سواء أكانت بالنسبة للجامعة أو للباحث نفسه...
أولاً: مفهومُ السرقة العلمية
أشارت العديدُ من الدراسات العلميّة والبحثيّة المحكّمة إلى ظاهرة السرقات العلميّة، تارةً نظرًا لخطورة تلك الظاهرة وسرعة انتشارها كالنار في الهشيم داخل مجتمعاتنا، خاصّةً في الآونة الأخيرة، وتارة أخرى التطوّر العلميّ والتكنولوجيّ وما انبثق عنه من اقتباسٍ وانتحالٍ للإفكار والمعلومات بسهولة ويسر، دون أدنى درجات الرقابة والمتابعة والمحاسبة القانونيّة، دون وجود أيّ رادع يردعهم؛ ممّا زاد في سرعة انتشار مثل هذه الظاهرة، التي في غالبيتها تسيء ليس للباحث أو للطالب، وإنما تسيء للجامعة واللقب الأكاديميّ الذي حصل عليه بعد دراسته الأكاديميّة، وهذا يُعدُّ انتهاكًا صارخًا لمبادئ أخلاقيات البحث العلميّ.
بعد الاطلاع على الدراسات والأبحاث العلميّة التي تناولت هذه الظاهرة؛ فإنّني أجد تعريفًا مناسبًا لمفهوم السرقة العلمية يتناسب مع باقي المفاهيم والأطروحات العلمية التي تناولت هذا المفهوم. فمن وجهة نظري تعدّى مفهوم السرقة العلميّة مظاهر الانتحال والاقتباس والنسخ واللصق، إلى السرقة المباشرة لعناوين كتب ودراسات وأبحاث لكتّاب وباحثين ومشاهير، دون وجود قوّة قانونيّة تردعهم أو تعاقبهم، وهذا يُعدُّ تعديًّا على منظومة الأخلاق والقيم التي يتغنى بها هذا الباحث أو ذاك.
وبناءً عليه؛ فإنَّ التعريف الأنسب لمفهوم السرقات العلميّة من الناحية الاصطلاحية هو: عدمُ التزام الأستاذ الأكاديميّ أو الباحث، كيفما كانت وظيفته، أو الطالب الجامعي مع اختلاف مراحله الدراسية، في نقل المعلومة وتبويبها بشكلها النهائي، وفي توظيفها داخل بحثه، دون مراعاة أدنى درجات أخلاقيات البحث العلميّ؛ والتي من أهمّها: المصداقيّة، المهنيّة، والأمانة العلميّة، مدّعيًا أنَّها من نتاج فكره وجهده الأكاديميّ، مما يؤدي إلى انتهاك أخلاقيات البحث العلمي والإساءة إلى نفسه وجامعته التي تخرج فيها.
ثانيًا: العواملُ التي أدت إلى انتشار ظاهرة السرقات العلميّة:
يقودنا التعريفُ المذكورُ أعلاه إلى الوقوف على أهمِّ العوامل التي أدت إلى زيادة انتشار مثل هذه الظاهرة، خاصّةً في السنوات الأخيرة؛ لعلَّ أهمها:
التطوّر التكنولوجيّ: في ظلِّ التطوّر التكنولوجيّ المتسارع، فقد سُمح للعديد من الأكاديميين سواء أكانوا طلبة باحثين على مقاعد الدراسة، أو أساتذة جامعيين، إلى اللجوء إلى السرقة الأكاديمية؛ ظنًا منهم بأنَّها الحلُّ السحريُّ لنشر مقالاتٍ ودراساتٍ علميٍّة رصينة تؤهلهم للحصول على ترقية أكاديميّة، أو بحثيّة بسهولة ويسر، دون أيِّ عناءٍ يُذكر، سواء من خلال النسخ واللصق، أو السرقة المباشرة؛ بهدف الحصول على ترقية علميّة في جامعة ما، أو نيل درجة علميّة في تخصّص معين.
غيابُ الضميرِ الأخلاقيّ: يتمثّل في غياب الضمير الأخلاقي والدينيّ؛ ممّا يؤدي إلى التجرؤ والسطو على المنتجات البحثيّة للباحثين والأكاديميين بمختلف تخصّصاتهم العلميّة والتطبيقية، في ظلِّ وجود بيئة مشجّعة إلى حدٍّ ما على الانتحال العلميّ للنصوص الأكاديمية، ودون استشعار عظمة الخالق والخوف منه.
غيابُ الإرشادات التطبيقيّة للتعريف بخطورة ظاهرة السرقات العلميّة: يقعُ على عاتق كلٍّ من الجامعات العربيّة والوزرات العلميّة ذات الصلة بالشأن، كيفما كان موقعها، أن تقوم بين الفينة والأخرى بالدعوة إلى تنظيم نشاطاتٍ علميّةٍ، سواء على شكل ندوات أو محاضرات أو لقاءات توعويّة للتعريف بخطورة تلك الظاهرة، كي يتم تفاديها وعدم الوقوع في أخطاء ومشكلات مستقبلية لاحقًا.
انتشارُ ظاهرة المراكز التعليميّة للكتابة الأكاديميّة: ظهرت في الآونة الأخيرة مراكز علميّة- خارج نطاق الجامعة- تطلق على نفسها مراكز بحثيّة، وهي في الحقيقة لا تمت للواقع بصلة، وإنَّما تعمل على كتابة البحوث والرسائل الجامعيّة للطلبة، سواء في أثناء مرحلة البكالوريوس أو الماجستير، أو الدكتوراه، دون بذل أيِّ جهدٍ من قبل الطالب ذاته من أجل الحصول على الشهادة الجامعيّة، فضلًا عن لجوء المدرّس الجامعيّ لمثل تلك النوع من الأعمال؛ بهدف الحصول على ترقية أكاديميّة، مقابل مبلغٍ ماليٍّ معين، يدفعه لقاء الحصول على بحث ينجزه شخص يعمل داخل تلك المراكز أو خارجها.
ضعفُ وجود اهتمام كافٍ من قبل المشرف والأساتذة داخل الجامعة: إنَّ ضعف المتابعة من قبل المشرف يشكّل حافزاً لدى الطلبة للسرقة العلميّة واللجوء إلى ترجمة بحوث منشورة باللغة الإنجليزيّة إلى العربية، والقيام بعد ذلك بتسليمها للمشرف من أجل مناقشتها والحصول على الدرجة العلميّة، دون وجود أدنى درجات المتابعة العلميّة من قبل الجامعة نفسها؛ مما يعزّز هذا الشعور لدى غالبية الطلبة لاتّباعه في ظلِّ غياب قوانين رادعة تردع هؤلاء الطلبة وتعاقبهم، وفقًا للأصول القانونيّة داخل الجامعة.
إنَّ انتشار مثل تلك العوامل أسهم وعزّز من انتشار ظاهرة السرقات العلميّة، مع تزايد وتيرة التطوّر العلميّ والتكنولوجيّ داخل المجتمعات بأكملها؛ مما أدى إلى غياب المساءلة والرقابة القانونيّة على الأفراد العاملين داخل تلك المؤسسات، والذي يقودنا دائمًا إلى تساؤلٍ مهم: كيف يمكننا أن نحدَّ من خطورة تلك الظاهرة؟
ثالثًا: كيف يمكننا الحدّ من ظاهرة السرقات العلميّة:
اعتمادُ مساقٍ أكاديميٍّ داخل كل جامعة بهدف الوقوف على ظاهرة السرقات العلميّة المتزايدة داخل تلك الجامعات، وتوعوية الطلبة والباحثين الجدد بخطورة تلك الظاهرة نظرًا لكونها تمسُّ أخلاقيات ومبادئ البحث العلمي، والأمانة العلميّة التي أُنشئت لأجله.
تنظيمُ محاضرات وندوات توعويّة بالتعاون ما بين الجامعة والمراكز البحثيّة العاملة، بهدف الوقوف على ظاهرة السرقات العلميّة والحد منها حتى لا تتفشّى داخل الأوساط العلميّة، ممّا يصعب معها علاجها أو الحد منها، وهذا يتطلب في الأساس تنظيم نشرات دوريّة منتظمة؛ حتى يدرك الباحث والأستاذ الأكاديميّ خطورة تلك الظاهرة داخل مجاله الأكاديميّ.
اعتمادُ تقنيات تكنولوجيّة للكشف عن السرقات العلميّة: حيث تسمح تلك البرمجيات معرفة مواضيع الانتحال والسرقات العلميّة ذات العلاقة بالرسائل والأطاريح العلميّة، والمقالات العلميّة والبحثية من خلال جهاز يبيّن مدى حجم السرقة العلميّة، بهدف وضع حدٍّ لمثل تلك التجازوات من الأعمال التي من شأنها أن تؤدي إلى فقدان قيمة البحث العلميّ بين أوساط العاملين في مجال الدراسات العلميّة.
النتائج:
نتيجةً لما سبق؛ تُعدُّ ظاهرةُ السرقات العلميّة ظاهرةً بالغةَ الخطورة إذا لم يتم علاجها من قبل جميع الأطراف المعنية ذات العلاقة، سواء من قبل الجامعة كونها المؤسسة الأم والمسؤولة عن التدريس الجامعي ونشر البحوث العلمية والأكاديميّة، إلى جانب النشرات والندوات التوعويّة من قبل المراكز البحثيّة، للوقوف على مخاطر تلك الظاهرة حتى لا تتفشّى داخل الحقل الأكاديميّ، وتصبح أمرًا اعتياديًّا يسهل القيام به من قبل أيّ باحثٍ، من دون أيّ رقابة أو محاسبة من قبل الجهات القانونيّة ذات العلاقة.