قصة: باسم سليمان
كاتب سوري
أخرج خطمه من بين قضبان القفص، كي يتذوّق طعم الفراشات البيضاء التي تذوب على لسانه، ما إن تلامسه، مخلّفة قطرات من الماء يتلمَّظها كأشهى حلوى كوفئ بها، بعد أن أصبح نجم السيرك الأشهر. هذه السعادة الغامرة التي يعيشها عند تساقط الثلوج لم تكن تدوم إلّا لدقائق معدودات حين يجتاز خلالها المسافة بين قفصه وخيمة السيرك.
كان الوحيد من بني جنسه، فأقفاص السيرك مليئة بالفيلة والنمور والقرود والحمام وحيوانات أخرى، لكنّها لم تكن تشاركه حلمه بتذوّق الفراشات البيضاء. كثيرًا ما تمنّى لو كان هناك كنغر آخر، فلا بدّ أنه سيقاسمه شغفه، لكنّ هذه الأمنية لم تكن تتحقّق إلّا على شكل قطرة ماء مالحة تسقط من عينه. لقد كانت أيامه تمضي بين حلاوة الثلج وملوحة الدمع، وانتصارات وخسارات يهلّل لها الجمهور بالحماسة نفسها، ومع أنّه أصبح مرهوب الجانب، سواء من قبل العمّال في السيرك أم من الحيوانات، إلّا أنّه ظلّ يخشى الرجل الذي يرتدي ثيابًا ملوّنة وله أنف أحمر، مع أنّ الأطفال وزّعوا محبَّتهم لهما بالتساوي!
عندما دخل المهرِّج أوَّل مرّة إلى قفص الكنغر الصغير، لم يداعبه كما يفعل المدرّبون الآخرون مع حيواناتهم، بل ألبسه قفازين للملاكمة في يديه، وبدأ بتوجيه اللكمات إليه، آملًا أن تظهر غريزة الكنغر، فيبادله العنف بالعنف. لم ينتظر المهرّج وقتًا طويلًا حتى تفجّر غضب الكنغر في وجهه، فما إن بلغ الكنغر سنته الرابعة حتى أصبح يكيل للمهرج لكمات محكمة يرتج لها بطنه الضخم. وعندما طرحه أرضًا برفسة من قائمتيه الخلفيتين، ضحك المهرج حتى سقط أنفه الأحمر عن وجهه.
تلقّى مالك السيرك الأخبار المفرحة من المهرّج، فأدرج على الفور، فقرة الملاكمة مع الكنغر، إلى جانب العروض التي تقدمها الدببة والفيلة والنمور، فامتلأت خيمة السيرك بالجمهور. وكما يحدث في مباريات الملاكمة انقسم الجمهور بين مَن يشجِّع الملاكم الإنسان، ومَن يشجِّع الملاكم الحيوان. دارت في الخفاء المراهنات على من سيكون الرابح، وارتفعت أصوات التشجيع من الجمهور، منهم مَن يصرخ: "انظر إلى الكنغر، إنّه يرقص كمحمد علي كلاي". وآخر يقول: "إنّه روكي عالم الحيوانات، بل إنّه مايك تايسون". تتالت المباريات، وأصبح الكنغر نجم السيرك الأكبر.
كرّت الأيام وأصبح الكنغر مولعًا بالملاكمة، تبهجه صيحات المعجبين، فينفخ صدره فخرًا، ويقوّس يديه كي تبرز عضلاته بحجم أكبر. لم يكن الكنغر يربح دومًا، لكنّه كان نجم المباريات رابحًا وخاسرًا، فخُصِّص له قفص كبير وشاحنة تقلّه عندما ينتقل السيرك من مدينة إلى أخرى. هذه الحياة المثيرة التي يعيشها الكنغر، لم تنسه موطنه في أستراليا وكثيرًا ما كان الحنين يستولي عليه، فتصيبه الكآبة التي لم يكن يخرجه منها إلّا الحلم، بأن يُسمح له بالقفز على البساط الثلجي ومطاردة الفراشات التي تذوب من حرارة الأنفاس. أصبح يعرف أنَّ بلاده المسماة أستراليا تقع بعيدًا في الجنوب، وهو يعيش في شمال الكرة الأرضية. لكنه ما زال يملك ساقين قويتين، ستمكّنانه يومًا ما من القفز إلى مسافات كبيرة، وعندها سيعود إلى موطنه.
***
كان الطقس باردًا جدًا والسماء ملبّدة بغيوم تنذر بالثلوج، عندما عبرت قافلة السيرك إحدى الغابات كي تصل إلى مدينة جديدة. فجأة اندفع دبّ إلى وسط الطريق، فاصطدمت به سيارة السيرك الأولى منتجة تصادم بعض مركبات السيرك، وتعطُّل القافلة عن المسير. تسبّب الحادث بانكسار قفل قفص الكنغر، وما هي إلّا لحظات حتى قفز الكنغر من شاحنته، وتتابعت القفزات حتى اختفت قافلة السيرك، ولم يعُد يرى من حوله إلّا الأشجار. مضت ساعات والكنغر يقفز، والغابة لا تنتهي، وعندما نال منه التعب، اختار بساطًا من العشب الطري وغطّ في نوم عميق.
استيقظ الكنغر على صوت ضجّة بدأت تتنامى حوله. للوهلة الأولى ظنّ أنّه في السيرك على حلبة الملاكمة والجمهور من حوله يصرخ. وعندما توضّحت له الرؤية لم يكن الجمهور سوى حيوانات الغابة. شعر بالسعادة، فهو بين حيوانات مثله، فاستبشر خيرًا، لكنّ نظرات الحذر والريبة التي لحظها في عيون الدببة والذئاب والغزلان والبوم والغربان وحيوانات كثيرة أخرى لم يكن يعرف أسماءها، دفعته إلى التقليل من مشاعر الحماسة في داخله. وقبل أن يفتح فمه ببنت شفة، كان أحد الذئاب قد شنّ هجومًا عليه. لم يمهل الكنغر الذئب كي يغرز أنيابه في ساقه، إذ عاجله بلكمة أطاحت به جانبًا مغمى عليه. وهنا انبرى الدب مزمجرًا واللعاب يتطاير من شدقيه واندفع نحو الكنغر. استند الكنغر على ذيله، وبقائمتيه الخلفيتين سدّد ضربة مزدوجة إلى صدر الدب الذي تراجع مذهولًا من قوة الضربة. همّ أحد الغزلان بالهجوم، إلّا أنّ البومة الحكيمة أمرت الجميع بالتراجع والصمت، ومن ثم خاطبت الكنغر الحائر والغاضب من استقبال الحيوانات له: "من أنت، أيّها المتشبّه بالحيوانات؟ ألست إنسانًا!".
صُدم الكنغر ممّا قالته البومة وردّ: "إنسان! أنا إنسان! أنا حيوان كالذئب الذي هاجمني، والدب الذي يتوعّدني بالموت، والغراب الذي يحدجني بنظراته من أعلى الشجرة".
أمالت البومة رأسها من اليمين إلى الشمال، ومن ثمّ نفشت ريش صدرها وقالت: "لكنّك تقف مطوّلًا على قائمتيك الخلفيتين وهذا ما لا تفعله الحيوانات إلّا نادرًا، ويداك حرّتان عند المشي مثل البشر، وهذه العضلات التي في ساعديك، لقد رأيت صنوها لدى الصيادين، حتى أنّك تلبس ما يستر القسم الأسفل من جسدك، والحيوانات لا تخجل من عوراتها!".
تحسنّ مزاج الكنغر قليلًا، فالانتقال من التهيؤ للقتال إلى الحوار، قد يعني أنّه قد وجد ما يعزّز الأمل لديه في النجاة من هذه الغابة الكثيفة الأشجار: "أنا هارب من السيرك، حيث تُستعبد الحيوانات لكي تقدّم عروضًا مفرحة للبشر، ففي السيرك يلبس الفيل قبعة، والدب قميصًا، والنمر يزيّن جيده حزام أسود، وهذا الشورت ألبسوني إياه في السيرك".
لم يعجب البومة الردّ الذي قدّمه الكنغر، فقد خبرت كثيرًا كم هو الإنسان ماكر: "أيّها الإنسان كفّ عن التنكّر، فقد كشفنا ألاعيب صيادين أتوا قبلك، كانوا يتخفّون بين الأغصان ومنهم مَن كان يقلّد نداءات التزاوج، فيندفع الذكور كالحمقى نحو الشراك التي نصبوها، وكلّهم يقين أنَّ مَن يصوِّت ليس إلّا أنثى عاشقة. لكن لا بدّ من القول أنّ تنكّرك يكاد يكون متقنًا، وهذا بلا ريب من إبداع مخيّلتك التي صنعت آلة القتل؛ البندقية ذات الصوت المدوي، إلّا أنّك قد فشلت هذه المرّة، فقد أوجدتَ حيوانًا لم نر مثيله قط".
شعر الكنغر باليأس ممّا قالته البومة: "أيّتها البومة، أيّها الذئب، أيّها الدب، أيّتها الحيوانات؛ كيف للإنسان أن يتحدّث بلغة الحيوان؟".
أحسّت البومة بأنَّ خصمها من بني البشر قد بدأت قواه تخور، وأنَّ دائرة الأسباب والنتائج التي قدَّمتها للكنغر أطبقت عليه كالفخ، ولم يبق إلّا أن يسجل تاريخ الغابة لحظة الانتصار العظيمة للحيوانات بقيادة البومة على بني الإنسان: "يستطيع الإنسان أن يفعل ما يشاء، فمن خلال مراقبتي الطويلة له، أيقنتُ أنَّ الإنسان فيه كل صفات ومميزات الكائنات الأخرى، من حشرات وحيوانات وطيور، لذلك لن يصعب عليه أن يتكلّم لغتنا".
استبدّ القنوط نهائيًّا بالكنغر، وفكّر هل لعشرته الطويلة مع البشر دور في أنّ حيوانات الغابة لم تتعرّف عليه، فمَن عاشر القوم أصبح منهم، ومع ذلك ظلّ يحدوه أمل غامض بأن تستوعب البومة قصته: "أتسمحين لي أيّتها البومة بأن أخبرك قصتي، وبعد ذلك لكِ الحقّ بأن تفعلي ما تشائين!".
البومة: "تكلّم، فلن تخدعنا بكذبة أخرى أيّها الإنسان!".
جحظت عينا الكنغر من الغضب المكظوم، وتمنّى لو كانت البومة في مدى لكمته، لنتف ريشها بضربة واحدة ومع ذلك بلع الإهانة، واستكان وبدأ يقصّ قصته: "كنتُ كنغرًا صغيرًا، عندما تمّ خطفي من بلدي أستراليا وجيء بي إلى الشمال. لم أعرف بعد ذلك إلّا العيش في الأقفاص والملاكمة، وعندما سنحت لي الفرصة هربت؛ مَن يرفض أن يعود حرًّا كما ولدته أمه؟".
كانت البومة قد أعدّت نفسها لتجهز على حجج الإنسان بالضربة القاضية: "قلتَ لنا؛ بأنّك حيوان الكنغر، الذي خُطف من قبل رجال زرق، جاؤوا به إلى هنا بالصحن الطائر من بلد يسمى أستراليا ومن ثمّ أصبح ملاكمًا في السيرك، يا للعجب للقصة الماكرة! أيّها الإنسان، عفوًا أيّها الكنغر، إنّ الأشياء تُعرف بأشباهها، ففي هذه الغابة ألف دبّ، وألف ذئب، والكثير من الغزلان والغربان، لكن لا يوجد كنغر واحد يشبهك، وبعد كلّ هذا تريدني أن أصدقك؟".
مدّت البومة أجنحتها، وما إن فعلت ذلك حتى انسحبت الحيوانات جميعها واختفت، ولم تعد عين الكنغر تلمح لها أثرًا.
فكّر الكنغر لو أنّه وافق البومة على أنّه إنسان، فلربما سوف تساعده: "أيّتها البومة، أنا إنسان ضائع في هذه الغابة، ولا أعرف طريق النجاة، فخذيني برحمتك ودلّيني على طريق النجاة".
البومة: "كلا، لن أفعل، فلم يُبقِ بنو البشر أثرًا للشفقة في قلوبنا، ولن ألوّث سمعتي وحكمتي، بأنّ تقول الحيوانات إنّ البومة قدَّمت المساعدة للإنسان الذي يقتلها أينما رآها. هذه الغابة كانت يومًا أمَّنا جميعًا من حيوانات وبشر، لذلك سأتركك لرحمتها أيّها الإنسان".
صرخ الكنغر عندما رأى البومة ترفرف مبتعدة عنه، وتختفي بين كثافة أغصان أشجار الغابة: "أيّتها البومة عودي، أرجوكِ، سأموت إن لم تساعديني، أريد العودة إلى بلادي...".
لم يَلقَ صوت الكنغر جوابًا، ولا حتى مجرّد صدى، فأقعى وبدأ بالنحيب.
ظلّ على هذه الحال لفترة طويلة حتى شعر بفراشة بيضاء تستقرّ على أرنبة أنفه وتذوب سريعًا. نظر حوله، فرأى الثلج يتساقط عليه من فرجة من بين أغصان أشجار الغابة الكثيفة. أشعره الثلج بالأمل. انتصب على قائمتيه الخلفيتين، وبدأ يقفز، وما هي إلّا عدّة مئات من الأمتار حتى خلّف الغابة وراءه، ليطالعه الطريق العام. لقد عاد من حيث أتى، فقد كان يدور في دائرة طوال مدّة تيهه في الغابة.
لم تزل قافلة السيرك متوقّفة إلى جانب الطريق، فيما كان المهرج ذو الثياب الملوّنة يروح ويجيء قلقًا أمام قفص الكنغر. اقترب الكنغر منه، فربّت المهرّج على رأسه، وقاده إلى قفصه. كان الثلج قد بدأ يفرش الأرض ببساطه الأبيض، إلّا أنَّ الكنغر هذه المرّة، لم يُخرج رأسه من بين قضبان القفص كي يتذوّق الفراشات البيضاء. كانت البومة تقف على قمة إحدى الأشجار تراقب ما جرى بين الكنغر والمهرِّج، وفكّرت كيف أنّ الإنسان لا يقتل الحيوانات فقط، بل يسجن أخاه الكنغر أيضًا.