قصة: د.علي الخرشة
كاتب أردني
كان جَدّي لا يعرف أنَّ أعمامي وعمّاتي وزوجات أعمامي وأزواج عمّاتي وأبناء أعمامي وبنات أعمامي وأبناء عمّاتي وبنات عمّاتي قد اختبأوا في غرفة الضيوف وقد اطفأوا الأضواء.
كان متعكّر المزاج؛ لأنَّ جدَّتي لم تتذكّر يوم ميلاده. هو لا يقول ذلك لكنَّ عينيه ترسمان حبالًا من القلق توشك جدَّتي أنْ تتعثر بها كلّما مرّت أمامه قاصدة المطبخ. ولأنني أكثرهم قدرة على الكذب والتمثيل فقد أوكلت إليّ مهمّة استدراج جدّي إلى غرفة الضيوف. لحقتُ بجدّي إلى الشرفة حيث وقف يردِّد بيتًا من الشعر يذمّ فيه تبدُّل الزمان. وصرختُ بصوت ملهوف:
- يا جدّي أحدهم كسر زجاج النافذة.
- أيّ نافذة؟
- تلك التي في غرفة الضيوف.
هبَّ مسرعًا كحلزون، وسبقته جدّتي على الرغم من علمها بأنها خدعة. فتح الباب الموارب وأخذت يده تتحسّس الحائط تبحث عن مفتاح الكهرباء. اشتعل الضوء وانطلقت الصيحات العفريتيّة من كل مكان. وتلوّنت الغرفة بألوان البالونات المعلّقة. كنتُ أطلُّ مع جدي من إطار الباب وفوجئتُ مثله بتلك الرؤوس الكثيرة التي لا يعرف إلا الله من أين خرجت. ثم بدأ الجميع يغني أغنية عيد الميلاد. وكانت جدّتي أكثرهم حماسةً وأضعفهم صوتًا. ولأنني أجيد التصوير وجدتُ هاتف عمّي بيدي يطلب منّي تصوير الحفلة بكلّ تفاصيلها...
صوَّرتُ جدّي ولم أكن أعرف أنَّ عينيه حسّاستان لضوء الفلاش؛ لقد آذاه ذلك حتى سالت دموعه. أطفأ جدي شموعه الثمانين بنَفَس واحد ونظر لجدّتي برضى وفخر. فناولتْه هديته فتبسّم وطبع قبلة على رأسها.. ثم انهالت الهدايا عليه من كل حدب وصوب. وأُعطي سكينًا كبيرًا وقيل له: "اقطع الكيكة". وشاهدتُ في شاشة هاتفي علامات القلق ترسم ظلالها على وجهه. إنَّ يديه ترتعشان، فتقطيع قالب من الكيك قطعًا متساوية لهذه العائلة الممتدة مهمة صعبة للغاية، يعجز الرجل الكبير عن فعلها في يوم ميلاده. جاء الإنقاذ حين أمسكت جدتي معه السكين ثم انضمّت العمات، والمتحمسات من زوجات أعمامي. وراح جدي يقطع القالب بثقة كبيرة.. وابتسامة طفوليّة تبدِّل كل ملامحه. أخيرًا جاء وقت الصورة الجماعيّة. ولأنني بارع في التقاط الصور الجماعيّة كما أنا بارع في تصوير الفيديو فقد أوكل الأمر لي. التفَّ الجميع حول جدي كأنه نجم تلفزيوني وتأبّطت جدتي ذراعه. بدأتُ العَدّ: "واحد... اثنان". صرخ جدي بعد أن رفع كفَّه في وجهي: "توقف، هذه الصورة ناقصة". ابتسم قلبي وكادت دمعة تفرّ من عيني؛ أخيرًا تذكَّرني جدي. لكنه ركض خارج الغرفة متجاهلني. وعاد مسرعًا وهو يحمل معه ذلك الدرع الذي كرَّمه الحزب به يوم تقاعده. "الآن لنلتقط الصورة"، قال وعاد إلى مكانه وكان سعيدًا كملك يوم تتويجه. وأعدتُ العدّ من جديد: "واحد... اثنان... ثلاثة" والتقطتُ الصورة. كان الجميع يبتسم... وكان جدي أكثرهم ابتسامًا.
بعد شهر خرج عمّي غاضبًا من منزل جدي، حين سألتُه ما به قال: "إنَّ جدّكَ مجنون ومخرفن"، أردتُ الاستزادة من عمّي لكنَّ ابنه تكفّل بالإجابة: "لقد ضاع حلم العمر وطارت الكليّة العسكريّة من يدي؛ لأنّ جدّك يرفض أن يصوِّب وضعه".
يصوِّب وضعه!! صعدتُ الدَّرَج... ووجدتُه يقف في أعلى الدَّرَج حافي القدمين... سألني: "هل رحلوا؟"، فأخبرته أنهم قد وصلوا بيوتهم وتعشّوا وناموا، ولكن ما هذا؟ هل هذه الدموع تسقط من عين جدّي؟ كان يريد أن يقول شيئًا لكنه صمت وعاد لغرفته. بعد ذلك بثلاثة شهور صرخَتْ عمّتي في وجهه الذي كان يحضن بين ذراعيه درع الحزب.. وحاولتْ أن تنزع الدِّرع وتحطّمه.... لكنها حين رأت إصراره وتمسُّكه به غادرت المنزل وحلفت إنّها لن تعود أبدًا. سألتُ جدّتي: "ماذا حدث؟"، قالت: "إنَّ ابنة عمتك ميسم حصلت على وظيفة في منظمة مستقلة، لكنّها لم تحصل على الموافقة الأمنيّة، حتى يصوّب جدك وضعه". نظرتُ إلى جدّي الذي ما زال متكوّمًا على درعه وخشيتُ الاقتراب منه في تلك اللحظة واكتفيتُ بمشاهدته يرتجف. بعد ذلك تكرَّر الأمر مع أخي "ينال"، لقد حصل ذلك العنيد على منحة دراسية في بلد أوروبي بعد أن اجتاز ثلاثين اختبارًا لأربعة مستويات متقدمة في اللغة. وكما توقعتُ "ينال" بحاجة إلى موافقة أمنية، وعلى جدّى أن يصوِّب وضعه. رأيت أمي حانقة على جدّي، وأبي لا يفعل شيئًا. وقال "ينال" وهو يضرب رأسه بالحائط: "لماذا يا الله لا تأخذه وتريحنا منه؟؟"، التفت الجميع ومن بينهم أبي إلى "ينال"، وانتظر كلّ واحد من الآخر أن يعلق بشيء. قالت أمي لي بحنان: "أنتَ الوحيد الذي لا يرفض جدّك له طلبًا؛ فأنتَ أكثر مَن ينافقه". خرجتُ غاضبًا.. وصفعتُ الباب خلفي بقوة.
كان جدّي يجلس بجانبي في السيارة كصقر حبسوه في قفص دجاج، يتمسَّك بمقبض الباب، صامتًا على غير عادته، ولم أسمعه يقول نكته واحدة. قلتُ لأكسر صمته: "هل أنتَ متأكد يا جدي؟"، قال بانكسار: "آن الأوان لجدّكَ أن يصوّب وضعه ويعود لجادة الصواب... ثم إني أحبّ ينال ولا أحب أن يخسر هذه الفرصة". وقفتُ بالسيارة أمام المبنى، ونظرتُ لجدي الذي كان ساهمًا، وقلتُ: "لقد وصلنا". قال بارتباك وهو يبحث عن عصاه: "لن أتأخر عليكَ يا جدّو، خمس دقائق فقط، سأشرب عندهم فنجان قهوة، لا تتركني وترحل. لا أعرف طريق الرجعة". حاول بيده المرتعشة أن يفتح باب السيارة فتذكرتُ يديه المرتعشتين حين فتحتا باب غرفة الضيوف في يوم ميلاده. ولأنني أجيدُ الكذب صرختُ بعد أن لطمتُ جبهتي بباطن كفي: "لا يمكنكَ النزول هنا؛ المكان ممنوع وقوف السيارات فيه". فعاد لمقعده كأنه تلميذ نجيب ونظر للأمام. وتحرَّكت السيارة، وجدي يراقب بعينيه الرماديتين المبنى وهو يبتعد عنّا. كانت في وجه جدي فرحة طفوليّة حاول إخفاءها مدَّعيًا غضبه عليّ. وأخيرًا وجد نفسه أمام منزله... وهبطتُ من سيارتي وفتحتُ له الباب، وقلتُ: "تفضل يا رفيق". استغرب تصرُّفي وراح يتساءل عن مصير "ينال"، فأخبرتُه أنَّ المسألة حُلّت من دون تصويب أوضاع، و"ينال" يجهِّز حقيبة السفر داعيًا له بطول العمر.
في ميلاده الحادي والثمانين كان جدّي متوترًا لأنَّ جدّتي نسيت يوم ميلاده. وراحت تزور جارتها، وكنتُ أجلس أمامه أتلذَّذ بتغميس الكعك في كأس الشاي. وأخيرًا قلتُ له وهو يوشك على الانفجار: "يبدو أنَّ شُبّاك غرفة الضيوف تحطَّم من جديد. قال وقد ابتسم قلبه: "هذا أمر لا يُسكَت عنه"، وهبّ واقفًا، وطلب منّي أن أتبعه. تردّد حين أمسكت يده المجعّدة مقبض الباب، ونظر إليّ بعينين خائفتين، فابتسمتُ له وأنا أهزّ رأسي، ففتح الباب؛ فكانت المفاجأة؛ جدّتي تقف وحدها ومعها قالب الميلاد وعليه شمعتان. اقتربَ منها ولم يفتني أن ألاحظ عينيه تفتشان المكان بحثًا عن أعمامي وعمّاتي خلف المقاعد والستائر. قالت جدّتي: "كل عام وأنتَ رفيق عمري"، فقبَّلها على رأسها، واحتضنت يده بيدها وطفقت تغنّي له أغنية عيد الميلاد بصوت قويّ.. وكنتُ أنا ما زلتُ بارعًا بالتصوير... فقد صوَّرتهما وهما سعيدان، وقرَّرتُ أن أكتب هذه القصة، لكنّي حين أردتُ النشر طلب منّي مدير التحرير أن يصوِّب جدّي وضعه قبل النَّشر.