قصة: سوار الصبيحي
كاتبة أردنية
لم ألبث أنْ جلستُ فوق السرير متأزّرةً منشفة الاستحمام، حتى جفلتُ لرؤية انعكاسي في المرآة، يقتحم خصوصيّتي ويفرض حضوره الثقيل.
حاولتُ تحاشيه، والحيلولة دون تلاقي أعيننا، لكنه كان يدرك ما أفعل ويقاوم.
ابتعدتُ قليلًا نحو اليمين، فمال بجذعه يسارًا. تحرّكتُ أبعد (خروجًا به عن حافة المرآة) فأخذ يميل أكثر ليحرجني بالقبض على صورة وجهي المرتبك.
مرَّت بضع دقائق ملَّ بعدها من مشاكستي ومحاولات كسب اهتمامي، فانتفض واقفًا، اقترب شيئًا فشيئًا، ثم طبع كفّيه على الجانب الآخر من سطح المرآة.. التصق بها أكثر، فتشكَّلَتْ فوق سطحها البارد بقعة ضبابيّة لأنفاسه المتعبة.
دنوتُ بدوري لأضع حدًّا لهذه المهزلة، فوجدتُ نفسي أنهمك في مسح آثار أنفاسه. نفخ في وجهي لتتشكل ثانيةً، مسحتُها مرّة أخرى، نفخ مجدّدًا.. مسحتُ المرآة بأكملها متجاهلة النظر إليه بشكل مباشر.
وبقدر ما استفزَّني إصراره، كان يستفزُّه إعراضي أكثر.. حتى أنهى جولة صراعنا العبثيّ بحركة مباغتة؛ صفعني بقوّة، فسقطتُ أرضًا.
مدَّ قدميه إلى الأمام قابضًا على الحافتين الجانبيتين للمرآة، ثم قفز خارجها.
نظر إليّ باستنكار وشفقة، وألقى عنه المنشفة. ارتعدَتْ أوصالي، وأخذ نبضي يرتجف ممّا يخطِّط له.. أعرف ما يريد، ولا أحتمل عاقبته.
حاولتُ أن أستجمع قواي، وأفكر في التصرُّف الأنسب، حِرتُ أكثر..
- أيّنا أدرى بما يفعل؟!
فكَّرتُ في نفسي.
رحتُ أزحف خلفه، متوسلةً إليه أن يعود إلى رشده.. أو سكونه، أيًّا كان.
عجزتُ عن مواكبة حركته، كان أسرع منّي، وأسرع ممّا يُفترَض، كما لو أنَّ الحياة قد بدأت تغادرني وتدبُّ فيه. نظراته كانت جريئة ومشحونة بالعصيان.. وكأني أرى عينيّ للمرّة الأولى. شعرتُ بالانهزام أمامهما، فتوقفتُ عن الزَّحف، واستسلمتُ بإرادتي، إنْ كان يصحُّ تسميتها بذلك.
فتح النافذة، نظر نحوي، تنهَّد تنهيدةً تشي بالارتياح، ثم قفز بخفّة.
استجمعتُ نفسي بصعوبة، بالكاد استطاعت قدماي حملي، وعلى نحو متناقض كانتا مثقلتين بقلّة الحيلة، مهزوزتين برعشة الخوف.
نظرتُ عبر النافذة، فوجدتُه قد ابتعد.. قد نال ما أراد، وما أرادَ على أيّ حال كان أخطر من أن يظلَّ حبيس هذا المكان، أخطر حتى من تبعاته التي خشيتُ تحمُّلها وحدي.
على الرغم من ذلك، أخذَتْ شفتاي تنفرجان وأنا أتتبَّع خطواته بنظري، حتى وجدتني أتبسَّم تلقائيًّا، لم تخطر ببالي يومًا احتماليّة أنْ يبتسمَ الفَزِعُ للشيء ذاته الذي يفزعه.. أنْ يكِنَّ له في نفسه شيئًا من الامتنان!
إلّا أنَّ هذا ما حدث بالضبط حينها.. لأوَّل مرَّة.
وكان لصمتي معنى لأوَّل مرَّة.
لم أنادِه. لم أحاول حتى. وقفتُ أراقبه وهو يمشي بجسده العاري، كاشفًا -لأوَّل مرَّة- على مرأى الدنيا كل المساحات الزرقاء التي تغطّيه، وأغطّيها.