قصص قصيرة جدًا
محمد درويش عوّاد
كاتب أردني
( 1 )
في السّوق رجل ينفض الغبار عن أحذية تجلس بكامل بهائها على رفوف أنيقة، تستمتع بالموسيقى الهادئة التي يحبّها صاحب المحلّ، وتنتشي برطوبة الهواء المنعش، بينما يتصبّب العرق من جبين كتب ملقاة على كرتونة قديمة أمام المحلّ المُقابل، وصاحبها يغرق في نوم عميق، وهو يحلم بزبون واحد ينفض الغبار عن كتبه.
( 2 )
امرأة في الأربعين بكامل مشمشها تسير في السوق، تحسّ برغبة طاغية في معانقة الحياة، تنفث عطر أنوثتها على كلّ منْ يسير بقربها، تحاول الإمساك بشبابها الذي ضاع منها سدى، تبحث بين المارين عن فتى أحلامها لعلّها تجده بعد هذا العمر، تسعدُ لدقّات قلبها عندما تسمع كلمات إعجاب من أحدهم، تتنسّم جوّ الحُبّ الذي غادرها منذ سنوات، ما زال بها عطش إلى فرح الحياة، تمدّ يدها إلى الزمن لعلّه يصافحها ذات يوم، تمدّ يدها الأخرى إلى قلبها فتشعر بالعافية في كلّ ذرّة من ذرات كيانها، تبتسم وتقول في نفسها: "ما زال قلبي ينبض بالحبّ"، تسير طويلًا حتى تصل بيتها، تنام بعد تعب وقد تركت باب قلبها مشرعًا؛ لعلّ أحدهم يدخله ذات يوم دون استئذان.
(3)
في السوق تجلس امرأة تبيع الطيور بكلّ أنواعها، ينظر أحد الرجال بإعجاب إلى ديكٍ يقف شامخًا وسط دجاجات يتحلّقن حوله، يراقب منظرهنّ وهنّ يحاولن إرضاء الديك وإسعاده، يبتسم الرجل وهو يردِّد على مسمع المارين: "ليتني كنتُ ديكًا مثله".
(4)
رجلٌ طاعنٌ في المحبّة، كان من عادته يوميًّا بعد أن يصلّي العصر في المسجد الحسينيّ، أن يجلس في شرفة مقهى اعتاده منذ سنوات، يطلب فنجان قهوته، ويطلّ من علٍ على عمّان كي يعيد الخضرة إلى قلبه، يحدّق أولًا في سمائها بعيني صقر، ثمّ ينزل بهما إلى كلّ ركن منها، يستعيد مع قلبه الوديع مثل نسمة كلّ الذكريات: بيت الدّوق الذي بُني في عشرينات القرن الماضي، الحوانيت التي استعارت فمه لتروي أدقّ تفاصيل ذكرياتها. تغسله الغبطة وهو يرى الحياة تسير بفرح بين الناس، حيث تطوف عمّان بأجنحة من نور على كلّ واحد منهم، لتطمئنَّ على قلوبهم الناصعة البياض، وتفرغ كغيمة حبلى بالفرح كلّ ما فيها عليهم، وعند بداية زحف الظلام ينزل الرجل درجات المقهى، يسير بين الناس وقد امتلأت رئتاه ببهاء أناشيد عمّان الجميلة.
(5)
في السّوق طفلٌ صغيرٌ يوزّع الماء البارد على المارّين عن روح جدِّه، سيّدة تأخذ منه الماء وتدعو له، رجلٌ طاعنٌ في الفقر يقرأ الفاتحة على الماء ويروي ظمأه، كلّ مَنْ في السوق يشربون الماء البارد، ويدعون الله أنْ تُفرج الشرطةُ عن الطفل الذي اعتقلته بمعيّة باعة البسطات في الشارع.