قصة: محمد رمضان الجبور
قاص أردني
"محمود السعيد" لم يكن سعيدًا مطلقًا وهو يطرقُ الأبوابَ، الباب تلو الآخر، يبحثُ عن لقمةٍ تسدُّ رمق مَن تركهم وقد نسوا شكلَ الخبز الطازج، فهو منذ أشهر بعيدة يتنقّل من بابٍ لآخر، عسى أن يجدَ ما يصبو إليهِ من عيشٍ أقلّ من الكريم.
ضاقت عليه الدنيا، على الرّغم من كبر حجمها واتِّساع أبوابها، حتى بات يضربُ كفًّا بكفّ، وأخماسًا بأسداس، ويضع يده على شاربيه، ويتمنى لو لم يكن رجلًا، ويتذكَّر كيف أنَّ عمر بن الخطاب قد قام بإلغاء حدٍّ من حدود الله في سنة المَجاعة، ولكنَّ دينه وأخلاقه وتربيته تمنعه أن يكون سارقًا. تدور الأفكارُ في رأسه، تحمله من قصةٍ إلى أخرى، وهو ما زال يحملُ في يده مُغلّفًا ويقف أمام باب أسود كبير، ارتفعَ عاليًا حتى أوشك أن يلامس غيمَ السماءِ، وعلى جانبيه، وفوق أعمدةٍ من رخام، ينتصبُ تمثالان لنِسْرَيْن ظهر في ملامحهما العنف والتجهُّم، وعلى حافة الباب العلويّة كانت هناك مجموعة من الحراب تقف في صفٍّ طويل، تُشكِّل مشهدًا فيه من الخوف والرعب الكثير. لا يفتح هذا الباب إلا لتعبر منه سيارات سوداء فارهة، زجاجها قد تمّ تعتيمه وتظليله بالسّواد، فقط تستطيع أن تلمح ذلك الرجل صاحب النظّارة السوداء الذي يجلس خلف المقود، عندما يقوم بتنزيل زجاج السيارة للحظة ثم يمضي.
و"محمود السعيد" الذي لم يعرفْ السعادةَ مُطلقًا، يراقبُ بعينين أصابهما الكسلُ والنعاسُ، ويحاول أن يُقنع ذلك الرجل الذي يعتمر قبّعةً زرقاء غريبة الشكل بعض الشيء، وقد ارتدى بدلة سوداء ظهرت في وسطها وعلى أكمامها أزرار ذهبيّة، بأنه يحمل مُغلّفًا للرجل المهمّ داخل هذا المبنى، ولكنَّ الرجل صاحب القبّعة كان يهزّ برأسهِ دون أن يتكلم، وكأنه يفهم الأمر دون الحاجة للشَّرح والتَّفصيل.
تمرُّ الساعاتُ الطوال وهو ينتظر، الدقيقة كجبلٍ يجثم فوق كاهله، ففي أكثر الأحايين لا يُقاس الزمن بالدقائق والساعات، بل يُقاس بالظروف النفسيّة التي تصاحبنا أحيانًا.
ينتظر وقد بدأ الخدر يتسلّل إلى قدميه، فهو من ثلاثة شهور ونيِّف يبحث ويفتش عن أي وظيفة أو عمل يسدّ رمق مَن تركهم يتضوّرون جوعًا، حتى التقى بصديق له صدفة، قاده من يده إلى أحدهم بعد أن علمَ بحاله، ودخلا على رجل، تبدو على ملامحه الهيبة والوقار، وكل مَن دخل عليه يناديه بالـ"بيك"، ولم يخرجا هو وصديقه إلا بعد أن دوّن لهما كتابًا، ووضعه في مُغلّف أنيق وأغلقه بإحكام، فلم يجرؤ "محمود السعيد" على التفكير حتى بفتح هذا المُغلّف، بل أبقاه مُغلقًا، وأحيانًا كثيرة كان يمسكه بمنديلٍ ورقي حتى لا تصل إليه حباتُ العرقِ المتصبِّب من جبينه بسبب موجة الحرّ الشديدة التي كانت تتأثر بها المنطقة.
أصابه الضجر وهو يقفُ أمام تلك البوابة السوداء، داس على كرامةِ نفسه وهو يمثِّل دور المتسوِّل الخجول، ألجمته الحاجة، وكثرة الذين يقفون على باب بيته يطلبون ما لهم، أغاظه ذلك الرجل الذي يعتمر القبّعة الغريبة الزرقاء، فهو يرفض سماع أيّ كلمة، فقط يهزّ برأسه وهو يفتح أو يُغلق الباب الأسود الكبير.. فكم منّا يقف على أبواب سوداء لا تفتح، وكم منّا يبحث عن لحظة فرح وقد لا يجدها.
ويدبُّ الفرح في أوصال "محمود السعيد" وهو يرى صاحبَ القبعة ينهي مكالمة تلفونية، ويحرك سبابته اليمنى لينادي عليه، ولم تطل هذه الفرحة، ويصاب بخيبة الأمل مرّة أخرى وهو يسمع صاحبَ القبعة الغريبة الزرقاء يقول له:
- عليك أن تعود غدًا.
يقلّب المُغلّف الجميل بين يديه، الورقة التي ظنَّ أنها الورقة الرابحة، وكأنه يريد أن يلفت انتباه صاحب القبعة بأهميّة هذا المُغلّف، ولكنه يشيح بوجهه وبصره عنه، ويشغل نفسه بمكالمةٍ أخرى.
يعود "محمود السعيد" يجرُّ أقدام الخيبة، كمن رجع من معركةٍ خاسرة، يُقلّب المُغلّف اللعين بين يديه، لم يشأ أن يفتحه، بل لم يكن لديه رغبة في النَّظر إليه حتى، فقط وجد نفسه يُلقي به في أقرب حاوية للنفايات ويمضي.