قصة: سمير يوسف حكيم
كاتب وقاص مصري
وقفَتْ بركن قصيّ تملأ عينيها من زرقة المياه المختلطة بلون الحليب، دائمًا ما يشدّها البحر. تراقب ضربات أمواجه المتلاحقة على الصخور، وإيابها المتخاذل، تقول لنفسها إنَّها هي الأخرى صخرة واجهت في وقت ما ضرباتٍ بالقوّة نفسها، وما تزال، على الرّغم من سحب وغيوم تغطي سماء حياتها، محتفظة بقوة البصر.
صعدَتْ بأنامل يدها تتحسَّس الكمامة على وجهها، لكن بحركة لا إرادية تقلّصت اليد وعادت لأسفل، تنهَّدَتْ: "نعم، مثل صخرة قوية".
اليوم، قبل مغادرة البيت هربـًا من الوحدة والملل نظرت لجزء من وجهها في المرآة ثم ارتدت الكمامة وخرجت للشارع لا تلوي على شيء، يمتدّ تحت قدميها رصيف الكورنيش المُبلَّط، والمغسول في هذا الفصل برذاذ البحر، تتخيَّر ساعة الغروب حينما يخلو الشاطئ من المارّة.
على مسافة قريبة وقف شاب نحيل الجسد، غير عابئ بالرياح المفاجئة التي اندفعت وكنست المقاعد الخاوية الّا من وريقات ورد تناثرت على السطح المتعرِّج، تطايرت في الهواء ثم سقطت شاحبة اللون عند قدميه، تنبئ ملامح وجهه بإكماله العقد الثالث من العمر، راح يمسح الفراغ حوله بنظرات زائغة كمن يبحث عن تائه.
كانت المرأة سابحة في أفكارها بعيدًا، فلم تنتبه لاقترابه حتى صار على بُعد خطوات منها، حتى الآن لم تهتمّ لأنَّ ذكرى مؤلمة عاودت التوهُّج والاشتعال بداخلها وهي مُحدِّقة في البحر، يتحوَّل رماد الماضي المتكوِّم في الصدر إلى ألسنة نار، تخمدها كل مرّة كيلا تنمو وتلوِّث روحها برغبة الانتقام... لقد كانا هنا في المكان نفسه، وبدت كلمات الحب التي قالها كمقطع من أغنية تحبُّها، البحر صديق أمين، تثق في قدرته على ابتلاع المزيد من الأسرار، لا يملّ من سماع القصة المكرورة عن الغدر الذي يختصّ به البشر أكثر من كل الكائنات الحيّة، ولا تبدي أمواجُه اعتراضًا لوصفها الغدر بأنه أخطر من وباء "الكورونا"!!
لكن ما إن تفرغ من القصة حتى يزفر بغضب ويقذف أمواجًا أخرى تصدّها الصخور. التفتت حولها وفكَّرت بنزع الكمامة ليتجدَّد الهواء، وتتنفَّس بحريّة، لكنها اضطربت وتخلّت عن الفكرة لمّا وجدته خلفها، لم تجد بُدًّا؛ فاستدارت تواجهه بنظرات حادة، محذِّرة إيّاه للتراجُع.
ظلَّ في مكانه واقفًا بإصرار، يتفحص وجهها الذي اكتسى بالتحفُّز: "ماذا تريد بالضبط؟!". كأنه يتوقع السؤال، فقد أجاب وبلا مواربة إنه يشعر بالوحدة ويرغب في التعارف، لم تدهشها صراحته كما لم تشفع له اقتحامه لخلوتها مع البحر، أعادها هذا الموقف إلى ما حدث لها قبل سنوات ولم تلفظه الذاكرة، فما أشبه اليوم بالبارحة!
بحثت عن موطئ لقدميها لتمضى، فيما وقف الشاب يتطلّع إليها. "ماذا ينبغي أن تفعل!!"، تعترف بحسرة أنَّ تكرار التجربة لن يفيد خاصة بعد فقدانها لشيء يمنح الأُنثى جاذبيّة، لم تجد في عقلها غير نظرة خشنة رمته بها فتنحّى جانبًا وأخلى الطريق. مشت ورأسها منكسًا للأرض، تبعها، ثم تجرّأ ومشى بجوارها كمتسول يستجدي صدقة، وبدا لأذنيها صوته المتوسِّل مثل نداء صادر من فضاء بعيد، يخاطب أعماقها، يحثها على الغفران والنسيان والبدء من جديد.
حتى لو أرادت، فهل تقدر أن تنفض غبار الماضي وتزيل آثار الحروق الواضحة بأسفل فمها؟
تأرجحت مشاعرها في تلك اللحظات بين الهزيمة والرفض والقبول، ومالت بجانب وجهها تختلس بضع نظرات إليه، ربَّما أزعجتها تلك الندوب تحت عينيه، وهو حين مرَّ ببصره مرّة ثانية على وجهها، تأكَّد أنَّ البريق الذي يمنح الوجه جمالًا ذهب من العينين المكحلتين.
تبادلا كلمات مقتضبة وهما سائرين، ثم نزع كمامته على الرغم من أنَّ نتائج الفحوصات التي أجراها اليوم لم تكن مُطَمئِنة، وطلب منها فعل الشيء نفسه، فقالت بصوت يشوبه الانفعال: "لا.. للوقاية من العدوى".
الهواء حولهما بارد ومتشبّع بالملح، تباطأت خطواتهما، واستمرَّ هدير البحر في تضييع صوت أقدامهما على الرصيف. بعد علاقتها بأوَّل رجل قابلته هنا في ذلك المكان تزوّجا، لم تُصِبْ الخيانة القلب فقط، بل أيضًا جزءًا من الوجه، تتراءى لها أحيانًا صور للخيانة كأشباح تتراقص حولها في الظلمة.
لاحظ شرودها فأراد التجمُّل بكلمات رقيقة لإزاحة الضَّجر الجاثم عليهما، أظهر إعجابه بطريقة تصفيف شعرها، تنبّهت لِما قاله فتوقفت فجأة، ونزعت عن وجهها الكمامة، أدارت رأسها ونظرت في عينيه مباشرة، بدا له وجهها مصطبغًا بلون الشمس الغاربة، لم يقدر أن يبتسم، وفشل في اجتياز جدار الصمت الذى تعالى بينهما ووضحت به الشروخ، فتردَّد بصره بينها وبين الطريق الإسفلتي والسيارات التي احتجزتها إشارة المرور، استدار وعبر مسرعًا إلى الاتجاه الآخر من الشارع، ومضت هي في غير اتجاه، يعترضها سور البحر ويفصلها عنه.
توقفت تتابع صخب الأمواج أثناء جريانها في إثر بعضها بعضًا إلى الشاطئ، كلَّما تدافعت لضرب الصُّخور ترتدُّ في يأس رذاذًا مالحًا.