محمد سلّام جميعان
ثقافة عربية
تطواف في حدائق الموريسكي/ إنصاف قلعجي
في حديثها عن تجربة الشاعر العراقي حميد سعيد تضع المؤلِّفة قارئها في جمر الحرائق والاشتعالات والارتحالات المتعددة في المكان والكتابة. فمن خلال الدراسات الكثيرة التي عُنيت بتجربة حميد سعيد الشعرية، ومن خلال معايشتها التذوقيّة لقصائده وانعكاساتها في مسيرة حياته، تلفّعت المؤلِّفة بعباءة الحزن والانكسارات والحنين الذي يغلّف تضاريس القصائد المجتباة عن شخصيات وأماكن وأحداث، لتكشف للقارئ كيف تتشابه الحلّة في العراق مع غرناطة، وكيف يغدو العراقيُّ في هجراته وتهجيره أشبه بالموريسكيّ. فالمؤلِّفة تكشف القناعَ عن أسرار القصيدة لدى حميد سعيد، وكيف يبني قصيدته على معمارٍ تاريخيٍّ وحواريٍّ وتشكيليّ.
في العنوان الذي حمل( جماليات الشعر الروائيّ) تغوص المؤلفة في ديوان حميد سعيد: "أولئك أصحابي" وتقارب التجربة الشعرية عنده وتجلياتها في الشخصيات المُنمذَجَة التي بنى عليها حوارياته الشعرية معها، وإحالاته الدلاليّة التي تؤشّر على ما حلّ بالعراق من محن ظَمِئت فيها الليالي الطويلة للفجر، فيحمل الشاعر جرحه المغسول بالدم وذاكرته المُتعَبة من الولائم الدمويّة للقتلة، عبر حواراتٍ تؤشّر على القاتل والمقتول.
تبدو المؤلِّفة وهي تكتبُ عن تجربة حميد كأنَّها تكتب بحدّ السكّين، فالفَوَرانُ العاطفيُّ يتدفّق من الجمل والكلمات، ليس انحيازًا للشاعر وإنّما انفعالًا مع الجرح والغربة والدموع الصامتة، ولهذا لم يأت اختيارها عفويًّا للقصائد التي تحدَّثت عنها، وإنَّما هو اختيارٌ مدروسٌ وممنهج يتوافق مع حزنها الذاتيّ وبكائيات نهر دجلة، والليالي المريرة التي عاشها الشاعر نحيبًا على وطنٍ عاث فيه الدمارُ والتخريب. إنَّها الكتابة بانفعالٍ خلّاق حتى وهي تكتب عن مسرحياته الثلاث التي صدرت مؤخرًا، وهي: (التوأمان، شبّاك الحبيبة، المتعالم).
الكاميرا تُشرقُ من القدس/ سليم النجّار
يوثِّق هذا الكتابُ مرحلةً مهمّةً من تاريخ الصورة في فلسطين ما بعد النكبة، من خلال معاينة دور كاميرا هاني جوهرية، التي رصدت مأساةَ وطنٍ وشعبٍ يسعى الاحتلالُ لطمس آثاره.
ومن خلال الحفر الذي مارسه المؤلِّفُ في تجربة السينمائيّ هاني جوهرية، يتكشّف للقارئ المراحل الثلاث التي عبرها جوهرية فجعلت له مكانًة مميزًة، وصيّرته- أخيرًا- أحد روّاد ومؤسّسي السينما الفلسطينيّة، كما يبدو في الشهادات التي باح بها عارفوه عن شخصيته وتجربته الفنّيّة.
يسلّط المؤلف الضوء على علاقة جوهرية بالقدس، آملاً أن يضيء المتخصّصون في الفن السينمائيّ البؤر الفنية في التجربة حتى لا يبقى أثرٌ منها في العتمة، فالصورة التي ترصد حالاتِ النضال والمقاومة تتحول من حكاية إلى تاريخ، وبالتالي يصبح بالإمكان إعادة تشكيلها مسرحيًّا أو إلى أيِّ عملٍ فنيٍّ وأدبيٍّ يزيدها رسوخاً في المتخيّل الجمعيّ.
وتشكّل الشهادات التي قدَّمها صلاح أبو هنّود وعز الدين المناصرة وعدنان مدانات وعادل الكسبة، وكثيرٌ من أصدقاء جوهرية، غابةً معرفيّة للقارئ بتفاصيل الحياة والفن في شخصية هذا السينمائيّ، وهي حياةٌ تشبه الأشجار والبحر. وفي ثنايا الكلام في الكتاب يقف القارئ على مواقف وأحداث وشخصيات تكشف ما وراء الكاميرا المقاتلة مرسومة بضوء الحقيقة، قبل أن يغلق جوهرية باب الأستوديو على لقطة يظهر فيها الطفل الفلسطينيّ بحجم حبّة الحمص، وهو يواجه دبابة العدو التي كانت في الصورة نفسها بحجم بناية متعددة الطوابق.
حياة مختلفة وصورة مختلفة عن الصورة الصحفية. هذا ما أراد الكتاب أن يقوله في المآل الأخير، وهو يعزف على أوتار تجربة هاني جوهرية التي انتهت باستشهاده أثناء تصويره معركة عين الجبل في مرتفعات عين طورة اللبنانية.
يافا أُمّ الغريب/ أسماء ناصر أبو عيّاش
يجمعُ هذا الكتابُ بين التوثيق والتاريخ والصحافة والتنقيب في النفس الإنسانية، وتصف فيه مؤلّفته أشواقَ الحلم بالعودة، من خلال قصص حقيقيّة، ففي الكتاب يتعدد الحالمون قبل أوسلو وبعدها، ويتوحّد المكان" يافا".
لا بأس أن أسرد للقارئ الحكاية التالية المؤثرة التي تتعلق بوالد الطبيب أيمن مشعل" فعندما لجأ من قرية زكريا، قرّر أن يشتري بخمسين جنيهًا، أي ثلث ما كان معه، مذياعًا، ولمّا كان المبلغ شبه ثروة ارتجّ مَن حوله، وقال له ابنه الأكبر: أمذياع ولا مكان إقامة لنا؟ دعنا نشتري أرضاً أو بيتاً نقيم فيه. فارتجّ الأب أيضاً وصرخ: أأشتري أرضًا وبيتًا وأنا لي بيتي هناك؟ هل تظنني أستبدله؟. وردَّ الابن بأسى: ليش راديو يابا؟. فاستهجن الأب السؤال وأجاب: حتى نسمع إيمتى رح يقولولنا نرجع ع البلاد.
تختلط الأدوارُ والمشاعرُ في المسرودات الحكائيّة في هذا الكتاب الذي تتناوبُ في سطوره الذاكرةُ والواقعُ، وتسرد الكاتبة نبض الجينات في الأبناء والأحفاد وهي تحمل صورة المأساة، وبراءة الطفولة التي درجت على رمل بحر يافا، وهي تُفجَعُ بالغرباء حين يسرقون البحر والذكريات.
الكتاب يحكي زمناً طويلاً من الحنين لتاريخ وأيامٍ ليست بعيدة على درب الآلام. لم تكتفِ الكاتبة بدور الراوي في كتابها بل تركت ليافا أن تروي عن نفسها، باستثناء تجربتها الذاتيّة مع منشية يافا حيث مهد أبيها الأول.. "بابا ما في مكان في يافا اسمه المنشية. تماسكتْ، وعلى الجهة الثانية من الخط بكى وبكت معه سنوات عمره الخمس والسبعين. خمسين عاماً قضاها في مخيم الزرقاء... لم يشأ الرحيل عن منزله في المخيم على أمل العودة إلى يافا، بل وإلى المنشية بالذات".
وقد عمدت إلى ترتيب الروايات على نحو يجعل منها مسلسلًا حكائيًّا متصلًا، كلُّ محطة منه تفضي إلى التي تليها بعذوبةٍ سرديّةٍ زاد من جمالياتها طبيعةُ تركيب الجمل، واستدخال اللغة الدارجة تعزيزًا للتوثيق التاريخي، وتفعيلًا لنبض الحالة.
ثقافة عالمية
جاز/ مارسيل بانيول، ترجمة: إبراهيم صحراوي
تعيش الشخصيّةُ المسرحيّةُ الرئيسةُ "جان بليز" وهو أستاذُ النحو الإغريقيّ، اغترابًا بحكم عُمره المتقدم نحو الشيخوخة، فهو محرومٌ من كلِّ تجربةٍ تدخل السعادة لحياته، وتبوء محاولته الأخيرة في تَجرِبة الحُبّ مع إحدى طالباته بالفشل..
يعثرُ في سنواتِ شبابِه على مخطوطٍ عنوانه: "فايتون"، وهذا المخطوطُ أفسد عليه حياته، بعد أن تخلَّى عن جميع ملذَّاته في سبيل دراسته وشرحه وإكماله، ثم يتبيّن له في سنّ السابعة والخمسين، أنَّه كان يعيش مجدًا كاذبًا فتتهاوى ذاته وكبرياؤه، ويُعلن موتَ الأستاذيَّة والمفكِّر، فيقول لطالبته: “أستاذ!.. أستاذك لا يستطيع أن يجاوبك، لقد مات! لقد علَّقتُه مع روب الأستاذيَّة الخاص بي"، ويعترف لعميد الكُليَّة أنَّه لم يعد مؤمنًا بالفِكْر والعلوم الإنسانيَّة. وحين يلقى درسه الأخير على طلبته يبيّن لهم نفاق الفلاسفة والباحثين.
المسرحيّةُ تؤكّد على لسان "بليز" منظوريَّة الفِكْر ونسبيته، وأنَّ التعصُّب لنظريَّاتٍ وتحويلها إلى حياة هو الفشل بعينه كما فعل هو. ف"بليز" الممتلئ بالغرور واحتقار العامة، ضحى بسعادته ليخدم البشريَّة، لكنَّه حين عَلِمَ بمحتوى "فايتون" الحقيقيّ، تغيَّرت قناعاته، فيطلب من الجميع ترك مقاعد الدراسة ومهنة التدريس، وأن يمارسوا مهَنًا أنفع تدرُّ المالَ والفائدة والاستمتاع بالحياة. فهل سنجدُ أنفسنا في أحد الأيام مثل "بليز"؟!.