البوليفونيّة المكانية في "رغبات ذاك الخريف" لليلى الأطرش

محمد دَلْكِي

كاتب وشاعر أردني

المكانُ وعاءُ الحدث، لا إمكانيةَ لوقوعه دونَه. إنَّه الفضاءُ أو الحيّزُ الذي يمنح الأشياء وجودَها، ويسمح للزمان بالعبور. ويُعَدُّ -بذلك- عِمادَ العمل الفنّي، عامةً، والرّوائيّ، بخاصة. وبالطبع، فإنّ المكان في البنية الروائيّة لا يعني الجغرافيا أو المكان الموضوعي حسب؛ إنّه مسرحٌ للأحداث متجزئ ومنقسم ومتعدد في آن، ومصوغ من الكلمات. إنَّه ليس المكان ذاته، بقدر ما هو معاودة لتشكيله وفق رؤيا الكاتب وإحساسه. ففي نظرية الرواية، يدخل "المكان عنصرًا رئيسيًّا لا يمكن تجاوزه في أيِّ عملٍ روائيّ. وقلّما نعثر على تعريف للرواية يهمل عنصر المكان، فالشخصيات تحتاج مكانًا لحركتها، والزمنُ يحتاج مكانًا يحلُّ فيه ويسير منه وإليه، والأحداث سردها يستحيل إذا تم اقتطاعها وعزلها عن الأمكنة فلا شيء يجري ما لم يجد ما ينشئ جريانه عليه." 

والمكانُ في "رغبات ذاك الخريف" ذو حضور طاغٍ. تصف الكاتبة روايتها بأنّها رواية عمّان البشر والجغرافيا والتاريخ، وأنّها عن عمّان ما بعد الألفية الثالثة، أو ما يمكن وصفه بالفترة شديدة التعقيد نتيجةً للأحداث المتوالية التي أثّرت في الأردن، عمومًا، وعمّان، تحديدًا، بسبب ما كان يجري في محيطها العربيّ سواء في العراق والكويت أم في فلسطين أم في لبنان.  فالأطرش تحكي عن عمّان وتسرد قصتها في مرحلة لم يتحدث عنها الكثير، تسردُ وأحداث المرحلةِ ما تزال طازجةً يعيشها الناسُ ويتحدثون بها ويحسّون بآثارها وانعكاساتها. فالرواية -إذن- تدور أحداثها في عمان الحديثة ما بين 2002- 2005م بما في تلك الحقبة من إضرابات وتغيّرات سياسيّة واجتماعيّة واقتصاديّة أسهمت في رسم ملامح جديدة لعمّان.

تتعدّد الأمكنة في "رغبات ذاك الخريف"، وتهيمن أسماؤها على فصول الرواية الخمسة والعشرين: "عمان؛ مخيم الحسين؛ قصر العدل؛ الكمالية؛ مدينة أيوا؛ مقهى عبدون؛ الكويت؛ مركز البحث العلمي؛ بيروت؛ باريس-أيوا؛ حي الياسمين؛ بيروت"، فسردية هذه الرواية تُمَرَّرُ عبر المكان وفيه. ومع أن هذه الأماكن مرايا تمنح الأحداث واقعيّتها، إلا أنّ هذه البوليفونيّة المكانيّة  تعود إلى بؤرة واحدة هي عمّان. فعمّان الحديثة، أو ما بعد الحدث، هي -هنا- المبتدأ والخبر، يُستهل بها السردُ في الفصل الأول ويُختتم بها -أيضًا- في الفصل الأخير. إنَّها رواية تبتدئ بالمكان وتنتهي به. وعمان هي البطل الذي يقف خلف الأبطال، البطل الذي تحاول الرواية أن تعكس حياتَه الاجتماعيةَ والاقتصاديةَ والفكريةَ في فترة مضطربة غيّرت ملامح وجه عمّان وبدّلت مفاهيمها. 

واتكاءً على ما سبق، فإنّنا نجد من الطبيعي أنْ يبتدئ الفصل الأول الموسوم بـ"عمّان" سَرْدَهُ هكذا: "تتمطى مدينة من حجر، تتثاءب... تصحو عاصمة يدغدغ الفقر أطرافها، يستدير وجهها غربًا فتنتشي بجاه وثروة وخضرة... تصحو مدينة الحجر... تنير مخيم الحسين والعبدلي والقلعة وتلة عبدون وحي الياسمين والكمالية... "  وهذه هي العتبة الأولى التي تقدّم عمان للقارئ؛ مدينة من حجر تتسم بالقسوة كما كلّ العواصم، الفقر يسكنها ويكسو أطرافها بينما يبدو غَرْبُها على خلاف ذاك، فهو ثريٌّ ويتمتع بالجاه والسلطة. ومع ذلك، فهي "كقِبلة للتائبين. يتلقّف حضن عمان وجوهًا تائهة... يصحو أبطال تتوالد فيهم سنوات عمان وتهضم اغترابهم."  يجتمعُ فيها أهلُها وكل من طردتهم يد الحروب من بلادهم، تحتضنهم عمان وتؤويهم وتطحنهم في آن، في مفارقةٍ تفتح آفاق التوقعات للمتلقي، وتعبّر عن خصوصية المكان وماهيّته. ويغدو المكان/عمان طاردًا للشخصيات الشابّة والمتطلّعة، ويَرُدُّ "غيث الحسنات" السبب إلى أن "العقول تطلب الهجرة من خيبة العرب" ، لأنَّ الشباب في الغرب/أيوا/أمريكا يستطيعون تحقيق ذواتهم وبناء مستقبلهم على العكس من عمان، وتصبح "عودة غيث حلمًا بعيد المنال"  في عيون أهله مع أنه يبيّت النية للعودة إلى بلاده بعد استكمال دراسته وإنجاز بحوثه، ويوافقه الرؤيةَ موسى إذ يقول: "إن السفر إلى أمريكا هو حلمه في الحياة... لكن يا الله! الحمد لله! فرنسا أحسن من بلاش."  كما هي عمان في عين خديجة السودانية -أيضا-: "منذ ثلاث سنوات وعمان ملجأ حب يتكسر بالنصيب والمكتوب" ، فعمان تعطي وتمنع في الوقت نفسه.

وبحسب "شارل غريفال"، فإنَّ "المكان في الرواية هو خديم الدراما. فالإشارة إلى المكان تدل على أنَّه قد جرى أو سيجري فيه شيء ما، ومجرد الإشارة إلى المكان كافية لكي تجعلنا ننتظر قيام حدث ما، وذلك أنَّه ليس هناك مكان غير متورط في الحدث."  وكذلك المكان في هذه الرواية، فاعلٌ ومؤثرٌ في الشخصيات والأحداث ومنفعل بها، فنرى توالي الأحداث وتماهيها بالمكان يضفي عليه حياة ما موازية للحياة الواقعية. فمخيم الحسين -مثلًا- ينفعل بالأحداث بعد النكسة وقبلها، فتتغير نفسيات الناس وأحلامهم وتطلعاتهم. تخبر أم أحمد ولدها أنّ "التغيير الكبير في السبعة والستين بعد النكسة! قبل ولادتك بشهرين ثلاثة. في السبعة وستين بدأ التغيير الأول. وصل نازحون من مخيمات الضفة الغربية فأصيب الناس بالذهول والصدمة.. يوم وقعت النكسة وضاع الجزء الآخر من فلسطين عرف الناس أن المسألة مطولة... في حوادث أيلول في السبعين، هذا هو التغيير الكبير الثاني في المخيم.. قبل ذلك لم تكن السياسة هم الناس! همهم تدبير المعيشة؛ تعليم الأولاد؛ الشغل في الخليج حتى العودة للبلاد.. الناس لم تغير حياتها قبل السبعين."  

أما التغيير الثالث الذي طرأ على المخيم، فقد جاء نتيجة لترحيل عدد كبير من أهاليه لفتح شارع الأردن. ونجد شخصية أحمد تتأثر بالحدث والمكان وتنفعل بهما فحياته تضيق كلما تغير المكان/المخيم. في الرواية: "ولأن أحمد بقي ضاقت حياته حتى الاختناق. ولأنه بقي، زامن تغيرات التسعين وما بعدها.. تقلص حجم المخيم حتى الثلثين. تبدلت وجوه.. تغيرت عادات، وخلط ناسه السياسة بالدين" ، ثم نلمح انفعال المكان بالأحداث لاحقًا بعد اغتيال عرفات فـ"تَغَيّرَ المخيم. رحل عنه كثيرون. تعالت طوابق المنازل بعشوائية وتلاصق أكثر. واستعدّ من بقي لإقامة أطول"  حينما تبددت أحلام سكان المخيم بالعودة أو الحل القريب.

ونجد جبل الحسين -كذلك- يتغير مع التغيرات التي تحيط بالمنطقة وما يلحقها من استجابات مجتمعية. ففي "منتصف التسعينات تغيرت زبونات جبل الحسين.. اختفت منه نساء الموضة وانتشرت ملابس المحجبات.. عجّت الأرصفة بفتيات في جلباب وحجاب.. تغيّر روّاد الجبل مع ظهور مولات عمان الغربية.. هرم جبل الحسين وصار ملجأ الباحثين عن أسعارٍ أقل."  أمَّا الكمالية فقد مثّلت ذلك الفضاء الرحب المطل على فضاءات عديدة، فنرى الجدة تجلس "فوق مقعد لا يتغير في شرفة الطابق الأول من منزل مكوّن من ثلاثة في منطقة الكمالية... إطلالة الأرض رائعة"  مما جعله متنفسًا روحيًّا للشخصيات، تتسع الصدور باتساعه، وإطلالته تستثير التأملات وتستنهض الذكريات، فـ"بيت الكمالية واسع من ثلاثة طوابق أقاموه على دونمين.. تحيطه حديقة كبيرة."  وهو الملجأ أثناء أحداث الكويت. فوجوده قرب السلط يذكر بالقرية المطلة على الطيرة في فلسطين، فـ"يوم احتلال الكويت كان أولاد مصطفى الطيراوي مع أمهم في بيت الكمالية، فلم يسمح لهم بالعودة كما الآخرين" ، أما بيروت فقد كانت ذلك الوطن الحلم الذي لا يمكن تفسيره؛ "بيروت سيدة المدن. منذ أن زارتها أول مرة قبل سنين، كبر السؤال: كيف سمح أهلها بتدميرها في صراعات وحروب دامت ستة عشر عاما؟!" ، واستجابةً للأحداث السياسيّة فإنَّ بيروت "مدينة نسيت استعدادها. غرست عيونها في الشاشات والشوارع، وهولها أكبر من تصديقها. فجروا موكب النائب في برلمانها. من ارتبط اسمه بإعادة إعمارها" ، وهكذا يبدو المكان فاعلًا ومحركًا للأحداث، وليس مكملًا لها بقدر ما هو مبتكرها ومحركها.

لقد تنوعت الأمكنة في "رغبات ذاك الخريف" بين المناطق المفتوحة كالمدن: عمان؛ الكويت؛ بيروت؛ أيوا، والأحياء: الكمالية؛ الياسمين؛ الحسين؛ مخيم الحسين، من جهة؛ والأمكنة المغلقة، مثل: الصالونات والمقاهي، والغرف الشخصية، والحمّامات، من الجهة الأخرى. وهذا التنوّعُ المكانيُّ الذي حمله الخطاب الروائي أعطى المكانَ خصوصيته، وجعله متماهيًا مع الحدث والشخصيات المتنوعة وعاكسًا لنفسياتها وآلامها وآمالها. وكما يقول غالب هلسا فإنَّ "العمل الأدبي حين يفقد المكانيّة يفقد خصوصيته. وبالتالي، ‏أصالته".  وعطفًا على الأمكنة المفتوحة التي تناولنا أبعادها الدلاليّة سابقًا، فإنَّ الرواية قد حفلت -إلى جانب ذلك- بكثيرٍ من الأمكنة المغلقة.

فمثلًا؛ لقد كان الصالون الذي يعمل فيه موسى في جبل الحسين قاسيًا ومؤلمًا وطاردًا. فقد "التحق به موسى قبل الإعدادية.. في سنتين كالدهر نظف الأرض.. أعد القهوة وغسل فناجينها.. كنس الشعر المقصوص.. احتمل تأنيب المعلمين..."  ولقد تكررت الدلالات السلبيّة للصالون حتى في باريس فـ"في "بالاس دو بيه" شارع السلام، في منطقة الأوبرا من قلب باريس عمل موسى "صبيًا" يمسح وينظف ويعقم الأدوات"  أي أنَّ المكان لم يسعفه أيضًا، بل ظلَّ شبحًا يؤرق ليله تمامًا كما هي غرفة أحمد؛ "تلون أمه قصة التهجير.. تنوع معاناتها فينغرس حزنًا في طفولة عينيه، ويمطر ضيق الغرفة ملحمة الخروج."  إنَّ الغرفة تسهم برأي "باشلار" في "تشكّل عالمنا وجوهر وجودنا إذ فيها نمارس أحلام يقظتنا، ونستشعر الهدوء الوريف الذي نستعيد من خلاله ذكرياتنا المواضي، ونخطط لمشاعرنا"   اعتمادا على الخيال. وبالرغم من أنَّ الغرف في العرف السردي ذات دلالات أليفة كما هي غرفة غيث إلا أنَّها ذات إيحاءات سلبيّة لدى أحمد، فغرفة غيث "غرفة متوسطة الاتساع.. سرير ودولاب ومكتب ونافذة تطل على مستشفى العسكريين.." . وكما تتفارق الغرف في تعاطيها مع الشخصيتين، فإنَّ الحمامات تفعل الفعل ذاته أيضًا؛ "دلف الحمام الصغير عند طرف الغرفة، تشبع خشب بابه بماء الاستحمام.. تفسخ فلا ينطبق. تشطف في المربع الصغير لقضاء الحاجة ولسعته برودة الماء"  بينما نجد أن لدى غيث غرفة "عند بابها حمام تشترك فيه مع الغرفة المقابلة. نظيف. ماؤه غزير أزال جهد رحلة مرهقة" ، فهو عامل للراحة، بينما أحمد يستحم في المرحاض.

أما منزل أحمد فهو متواطئ ضده -أيضًا- فـ"منزله غرفتان تشتاقان النور صيفًا وشتاء، نهارًا وليلًا.. رفعته عن وحول المطر وفيض المجاري درجات ثلاث تآكلت حوافها بالماء.. يتوسط الجانب الأيسر للطريق 20 من مخيم الحسين. تعلم منذ وعى أن عالمه المغلق سفح لأحد جبال عمان السبعة، وأن العاصمة تكبر وتمتد وتتجمل بعيدا عنه" ، وهكذا نلمس أنَّ أحمد يرى المخيم كله مكانًا مغلقًا، يعزله عن العالم الخارجي، وإن كان على قمة جبل.

أمَّا المقاهي الشعبية كنادي الحسين فقد عكست الحاجة والتعب والاحتفال بالأشياء البسيطة، وأمَّا المقاهي الراقية فقد تمظهرت أسيرةً للنمط الغربي. فمقهى عبدون "بذخ وكعك وأرجيلة وهيصة"  وصالون كارينا-أيضًا- يعكس الرفاه والحالة الماديّة المتيسرة لدى طبقة عمان الغربية على العكس من حال الصالونات في عمان الشرقيّة؛ تقول رجاء: "قال أفتح صالون في الهاشمي! وأسيب عز بنات كارينا وبنات عبدون وعمان الغربية. تياسه؟ " 

إنَّ شخصيات الرواية تنتمي لأسرٍ متفرقة تصوغ لمحاتٍ من حيوات تلك الأسر. تنمو الشخصيات وتلتقي في مكان واحد؛ فنادق عمان. شخصيات متعددة لكل منها قضيته الخاصة، الوشائج بينها ضعيفة، تسرد روايتها بنفسها لكنها تلتقي في زمان/خريف واحد. والشخصيات تمثّل شرائح مدينة عمان، تعكس أزمات المجتمع العَمّاني، هذه الشخصيات ذات انتماءات دينيّة وإيديولوجيّة مختلفة بحسب المكان. فالعمل، بأمكنته وشخصياته، يعكس الأفكار السياسيّة والاجتماعيّة ضمن شروط العمل الفني.

إنَّ وصفَ المكان في الرواية ليس وصفًا طوبوغرافيًا. إنَّه كما يقول الروائيّ "هنري ميتران": "المكان هو الذي يؤسس الحكي لأنَّه يجعل القصة المتخيلة ذات مظهر مماثل لمظهر الحقيقة" ؛ أي أنَّ المكان عامل فعّال في تقديم الحكاية التي يحملها السرد، فهو ذو تأثير في الشخصيات داخل الفضاء الروائيّ، وتأثير بالمتلقي خارج النص. وهكذا هو المكان في هذه الرواية، فهو ليس محايدًا ويحمل مدلولًا ثقافيًا، فتعدد الأمكنة والشخصيات يعكس طبقات المجتمع وتعدداته الثقافية. فالمكان في الرغبات ليس الجغرافيا. بل الكويت هي الغزو، وفلسطين هي المقاومة، وبيروت هي الجرح والجمال، وأَيَوا وباريس هما الحلم الكاذب، والمخيم هو المعاناة الأبديّة، وعمان هي المأوى والأمل والجرح.

في آخر الفصول، ظلَّ المكانُ سيّدَ المشهد، فهو يجمع أبطال الرواية في فنادق عمان وينهي رغبات ذلك الخريف، يموت العقّاد، وينتحب فيلم "الرسالة"، ويُترك السؤال مفتوحًا للقارئ على لسان الزوجين السودانيين اللذين جاءا لزراعة أطفال الأنابيب، فلم يكن، وكان ما كان. يتجلّى المكان أخيرًا مسطّرًا آخر مشاهده: "ولولت عمان. علا رعب الموت ونحيبٌ وزوامير إسعاف وهدير خوف غريب على مدينة وادعة. وعاصمة تُغْفي مع سكونها مبكرًا.. ضجّت سماؤها وطرقها وجبالها."