الذّاكرةُ المقدّسة، مفهوماً إحيائيّاً من الماءِ إلى الماء "ترانيمُ الغوايةِ" لليلى الأطرش نموذجاً

د. إيمان عبد الهادي

شاعرةٌ أردنية، وأستاذةٌ جامعيّة

"الكذبةُ السّافرةُ وحدَها تملِكُ الآنَ حرّيّةَ قولِ الحقيقة، إنّ الخلطَ بينَ الأكاذيبِ والحقائِق جعلَ التّمييزَ بينهما أمراً عسيراً، وبينَ أوساطِ بعضِ المتنفّذينَ الضّالعينَ اليوم، تفقدُ الحقيقةُ وظيفتَها الشّريفةَ في تمثيلِها الزّائِفِ للواقِع"

ثيودور أدورنو

قراءةٌ مُقارنةٌ نازِفة:

تتبدّى لتسجيلِ الذّاكرة ثلاثُةُ طُرقٍ، عبرَ التّاريخِ بمخطوطاتِهِ ووثائِقهِ الرّسميّة، أو عبر التّخييلِ الذي يتكئُ بدرجةٍ أقلَّ على المواجهةِ للوقائِع، ويرتادُ مناطِقَ الخلقِ، وينجزُ أحداثَهُ  بنفسِهِ، ويتواطَؤُ مع رموزِهِ التي أوجدَها للتوّ، أو عبر الوثيقةِ الوجدانيّةِ الشّعبيّة، وهنا تحضرُ مقولةُ "نيكولا فابتساروفا" الشّاعر البلغاريّ مثلاً "إنّني ذاهبٌ يا والدتي إلى القُرى لجمعِ الأغاني الشّعبيّة، عليَّ أن أعتمِدَ في كتابتي على الشّعب"(هامشُ النّصّ الشّعريّ، عزّ الدّين المناصرة، ص 234)، وتأخذُ ليلى الأطرش قناةً أقربَ إلى الخطِّ الأوّلِ، ممزوجاً ببعضِ الأخيلةِ، ومنحازاً للشّعبيِّ بالإجمال.

 

تحضرُ القُدسُ في الرّوايةِ بوصفِها مدينة الإيمانِ والجحيم!، الإيمانِ الذي ينسحبُ سببيّاً على السّلامِ والأمن الرّوحيّ ودِفءِ السّريرةِ والوداعة الأخلاقيّة، ومن ثمَّ الطمأنينةِ الدّينيّةِ متجليةً بأماكن العبادةِ وممثّليها، والجحيمُ الذي خلّفهُ الصّراعُ عليها أمام جنرالات الحربِ، وأساطينِ السّياسة.

وإزاء كلِّ روايةٍ تستلهم القدسَ، وتقتربُ من معجمِها الإرثيّ، تُستدعى الأدبياتُ الصّهيونيّةُ مقابِلاً عُضويّاً، وعلى رأسِها القصّةُ العَقديّةُ ل"فيثيودور هرتسل" "الأرضُ القديمةُ - الجديدة" التي تطرحُ "الخصائِصَ المنتظرةَ للدّولةِ اليهوديّة، والذي لم يكن الوحيد بينَ مؤسسي الصّهيونيّة السّياسيّة الذي يستعين بالأدب لعرض أفكاره السياسيّة، فقد كان الأدب الحقل المفضّل لتصفية الحسابات السياسيّة، لدى آباء الصهيونية ومثقفيها، إلى حد أثار التساؤل حول ظاهرة كهذه"(مقال في نقد الصّهيونيّة، حسن خضر، مجلّة الكرمل، ع: 80، 2004، ص 164، 165.

تقول الرّوايةُ: "لم ينذر صباح الجمعة بما هو غير عادي، حتى اعتلى الشيخ كامل الحسيني مفتي الديار منبر المسجد.. والأقصى يعجُّ بالمصلين من أنحاء البلاد، اشتعلت النفوس بكلمات الشيخ حين صاح: "ما حدث في القدس ليس قضية نصارى، بل قضية وطن"(الرّواية: 239)

في مقابِل روايتينِ تمتحانِ من بئر ذاكِرتهما تفاصيلَ ملحميّةً بلا حصر، تذهبُ روايةُ ليلى، إلى خلاصةٍ فائِقة، "كزلزالٍ اهتزت القدس".

فَيضُ الإشارات: 

ما الذي يمكنُ أن نحصلَ عليهِ إذا طلبنا مادّةَ "القُدس" من محرّك البحث، إنّنا لا نحصلُ لغويّاً، على أقلّ من الطّهر والمباركةِ والرّحمة.

وتشكّلُ القدسُ بينَ منطوقِها وتاريخها، انزياحاً شديداً في اللغة والوجودِ والأثَر، ينحرفُ بالمعنى الضّمنيِّ الجليلِ، ومن مكانتها التي لا تسمحُ بالاقترابِ وأسوارِها المحرّمة، لتسقطَ في هُوّةِ الواقعِ المدنّس، في تاريخِ الانتهاكاتِ والاستخذاءِ والتّقسيم.

ومنذُ العَتبةِ (ترانيمُ الغواية) تذهبُ الرّوايةُ إلى المعنى الأصوليِّ في الضّلالِ، ولا تقبلُ بديلاً عن هذا الاشتقاقِ الصّرفيِّ (الغواية/ المصدر) الذي يدلُّ على التّجرّدِ من قيدِ الزّمنِ، ولكنّهُ يأخذُ الفاعليّةَ إلى قمّتِها؛ إلى معنى المبالغةِ والاستغراق، فكيف إذا أخذتنا اللغةُ -بقفزةِ أخرى- إلى التّمادي والانقيادِ للهوى.

وتأخذُ حبكةُ الرّوايةِ خصوصيّتها المنسولةَ عن عَتَبَةِ التّرانيمِ، لتجعل تمرحلَ التّاريخِ المقدسيّ أقلّ وطأةً على الأذهان الباحثةِ عن القصّةِ لا عن التّسلسلِ المنطقيّ، وإن كانَ الحدثُ قاسماً مُشتركاً بينهما، وتذهبُ في الإيقاعِ المموسقِ إلى حدودِ (إغواءِ) اللغة، وجذبِ الشّخوصِ، ووسوسةِ العُقَدِ المكتثرةِ المتمرحلة؛ فنواجهُ في الرّوايةِ متعاكسين: فيضَ المشاعِرِ ودفقها، والحرفةَ في تقصّي الحقائِقِ وتوثيقِ الأمكنةِ والأجواء العموميّة.

وحينَ تُستنطقُ الذّاكرة، فهذا لا يحتاجُ فحسب إلى اللغةِ المنثالةِ وسيلانِ الأحداث، بل إلى زحزحةِ السّرديّةِ التّاريخيّةِ الإنسانيّة.

 

النّوعُ الأدبيُّ والذّاكرة

بينَ السّيرةِ الشّعبيّةِ والتّخيليّة، وروايةِ المخطوطاتِ التّاريخيّة تُحاولُ الرّوايةُ إنهاضَ الذّاكرةِ العربيّةِ بتنويعاتِ أطيافِها من الماءِ إلى الماء.

هذهِ النّهضةُ في تعاملِها الجادّ مع الحقائِق، وانعكاسها على الرّاهن السّياسيّ المتوتّر.

تذكرُ ليلى في إحدى حواراتِها (عن) ترانيمِ الغوايةِ، تخوُّفها من "عدم قبولِ نشرِ الرّواية" (حِبر، شباط، 2016)، هذهِ الرّوايةُ التي تُقلِقُ الموتى، وتقضّ مضجعَ أحلامهم المؤبّدة، انتماءً لأهمّ وظائف الأدب ودوافِعِه: أن يوجّه انتقادًا حادّا للمفاهيم، وأن يستعلي على الممكناتِ الحياتيّة؛ هكذا يتوّلد الماضي ويُختزل الحاضر، وتحضر الرواية كضلع ثالث له في الشكل الهندسي مثلّث الزّمن.

تنمو الأحداثُ في الرّواياتِ نموّاً سريعاً، عكسَ ما هي في الحياةِ البطيئةِ، ويُطوى الوقتُ عكسه في الوقائِعِ الثّقيلةِ الضّاغطة، تنمو -كشجرةِ بلّوط- على مهلٍ مُستغرِق، حاشدةً في أغصانِها وأوراقِها وجذورِها طاقةً فنتازيّةً تستلهمها الكتابةُ، وقد تخذلُها التّعابيرُ والرّموزُ مهما حاولتِ الإبقاءَ على اتّزانِها وبأسِها.

تدفعُ الرّوايةُ أحداثها إلى مجاهيل كثيرة، وتترُكُ بنيتها تعلو على غرارِ نسقٍ قوميٍّ رومانسيٍّ، فالتّاريخ ليسَ أدراجاً يتمُّ تصنيفُ المعرفةِ داخلها، المعرفةُ تُصبِحُ هنا جزءاً من التّاريخِ الشّخصيّ، لكلِّ إنسانٍ يحملُ عبءَ هذهِ القضيّةِ العالميّة؛ حيثُ تتوغّلُ جذورُ القدس في التّاريخ، وتحاول الرّوايةُ أن ترقى بالثّوراتِ الكثيرةِ المتزمّنة إلى ما وراءَ نقطةٍ ما في الزّمن.

التّفاصيلُ والثّورةُ والنّساء

لا تهربُ الرّوايةُ مثلَ أيِّ قصّةٍ موجعةٍ لمدينةٍ ما إلى اللاشيء، بل تواجهُ التّواريخَ والحوادِث، لا تهربُ من الهزائِمِ والنّكباتِ والقتلِ والتّجهيل وبيعِ الإنسان.

وتتقصّى الرّوايةُ في المخطوطاتِ قصّةَ المنطقةِ عبر ثلاثةِ أحقاب، الحكم العثمانيّ والانتداب والنّكبة عام 1948، تمرُّ بالدّونمة، والحواريين، والصّليبيين، والفروقِ بينَ الكنائِس

وبينَ مؤتمرِ باريس ومجلس المبعوثانِ وجريدةِ الحضارةِ في الأستانة، تصطفُّ مرافقُ السّياسةِ إلى جانبِ الشّخصيّاتِ الاعتباريّةِ في الصّحافةِ والأدب:

تذكرُ الشّيخَ عبد الحميد الزّهراويّ، وعبّاس محمود العقّاد، وطه حسين، وأمين نخلة، وميّ زيادة، وجبران خليل جبران، وعبد الرّزاق السّنهوري.

تمرُّ بمتعلّقاتِ طقوسِ اللاهوتِ كالقلاسِنِ ورهبان الأخويّة، الإكليريوس.

وتعيدُ ذكرَ الاصطلاحاتِ الشّعبيّةِ المعرفيّة: كالبقَج والفالِجِ، أو الاصطلاحاتِ الاحتجاجيّة التي لا تحلّ بديلاً عنها في المعنى أبلغُ الكلمات: "الهبّة الثانية تفجّرت في عموم البلاد، وجميع النفوس من تابعي الخلافة تنتظر خلاصًا لا تدري كيف يأتي؟ والناس "عايفة التنك" من فقرها، والتجنيد السخرة، والضرائب، وأوبئة وجراد وقحط.." (الرّواية: 238).

يُسبِغُ الوصفُ على الرّوايةِ شعريّةً قادِمةً من سطوةِ الذّاكرة، من تعمّدِ عدمِ النّسيان، ذاكرةٍ منتصبةٍ كمنارةٍ على البحر، تضيءُ المدّ والجزر.

"والعمّةُ من زمانِ المخاضاتِ الكبرى، والتّحوّلات العاصفة وُلِدت والقُدسُ تخلعُ عهداً وتعيشُ آخر، فتشابكت في أيامِها خطوطُ السّياسةِ والدّين، وتغيَّر المجتمع وتبدّل الأحوال والأفكار ونمطِ الحياة... فرشاة سورياليّة لوّنت المدينةَ ببشرٍ وأقوامٍ فاضَ عنهم سورُها العتيق... وفي توالي الحِقَب، وتغير الحكام وتتابع الأحداث، طغت فقاعات العام على الخاصّ كله، فطمرت قصص الناس وبعثرتها مثلهم. (الرّواية، ص 9)

إنَّ في الذّاكِرةٍ ما لا يُصدّق، فإمّا أن يهربَ المرءُ من وطأةِ القسوةِ، أو يواجِهَها بالتّدوين.

 

تحاوِلُ الذّاكرةُ أن تحضُر من خلالِ النّساءِ بوجهٍ خاصّ، الرّوايةُ التي أطلّت على الإنسانِ من داخلِهِ، وحاولت تقشيرَ أجسادِ النّاسِ وصولاً إلى جوهرهم الفاعلِ في سيرورةِ المدينةِ وأحقابِها المتداعيّة، رأت في المرأةِ وجهَ المدينةِ ضمنَ التأنيثِ اللفظيّ والمعنويّ والمركزيّ لكليهما، فتآلفَ النّسيجُ الرّوائيُّ على يدي امرأتينِ تنتميان لسلطتينِ دينيّتينِ مختلفتينِ لمدينةِ القدس: إسلاميّة ومسيحيّة.

في بنيةِ الرّفض:

كنفيرِ حربٍ في صباح رائق دوّت الأجراس.. وفي غفلة من الجميع اعتلى شباب الطائفة أسطح المنازل" (الرّواية: 238)

تتحدّث الرّوايةُ بطريقةٍ صارمةٍ عن الحقِّ التّاريخيّ، وتأخذُ اللغةُ بالانجرافِ نحو القاموسِ المقنّن للمفردات، التّداعي مشحونٌ بالمضامين، ومنذورٌ للتّذكيرِ بالحقِّ، والسّياقاتُ لا تتقصّدُ التّعقيدَ، بقدر ما تخلّق اللامتوقّعَ بينَ سرديّتين وأكثر، حيكت حول القُدس؛ هذهِ عودةٌ للوثائِقِ العثمانيّة، والأرشيف البريطانيّ، لا تعفي من السّؤالِ -الذي يتكرّرُ مع قراءةِ كلِّ روايةٍ تاريخيّة- حولَ توحّد الحكايةِ عضويّاً مع الخيالِ المنسوجِ حولها، وعن مدى انصياعِ السياسيّ والإيديولوجيّ للحبكةِ المطّردةِ، والحدَثِ النّامي، أو العكس.

قامت الرّوايةُ على طاقةٍ تمثيليّةٍ جعلت مفاصلَ الخيارات السّياسيّة التي طُرحت مقبولةً للقارئ، خياراتٍ كانَ يحسنُ بالنّصّ أن لا يقومَ بشرحِها.

ومن خلالِ خبرةٍ عميقةٍ استقتها الرّوائيّةُ من خلالِ قراءةِ عشرات المصادرِ والتّجوال مليّاً في حاراتِ القدس، يخرجُ هذا الصّوتُ العفويّ الرّافضُ، لا من مفاهيمَ مجرّدة، بل محتفياً بالحزنِ والقسوة والحيرة لبشرٍ من لحمٍ ودَمٍ وروح، مهما بلغَ الواحدُ منهم أن يكونَ ممثلًا للسلطةِ الدّينيّةِ الكهنوتيّة:

"وعدتُكَ أن أشرح أسباب خلافي مع ذميانوس، ورفعه العطف عني ونبذي. ظاهر اختلافنا جوهر الدين، وتباين الاجتهاد في تفسيره، وحقيقته خوف اليونان على المكاسب ونفوذهم" (من أوراق الخوري متري الحداد/ آذار 1931، الرّواية: 231).

بلادُ العجائِب:

لا بدَّ أنّ الرّوايةَ حاولت -مثلَ كلِّ روايةٍ تتناولُ فلسطينَ أو أحدَ أقطابِ تكوينها الشّموليّ- أن لا تساهِمَ في قتلِ الذّاكرةِ الجمعيّةِ الوطنيّةِ والإنسانيّة، أقولُ أن لا تساهِمَ؛ لأنَّ الحيادَ -بحقِّ القُدسِ- جريمةٌ مكتملة، وأن تترَكَ أثراً في هذهِ التّحوّلاتِ العميقةِ التي تخدشُ كبرياءَ التّاريخِ العربيّ في مدينةٍ على هذا العمقِ والاستغراقِ والجمال، بَدءاً تاريخيّاً من حكايةِ بيع الأرضِ الذي اضطلعت بهِ الكنيسةُ الأرثوذكسيّةُ اليونانيّةُ للمتموّلينَ اليهود، والذي ذكرت (ليلى الأطرش) في غيرِ حوارٍ معها أنّهُ عرّضها لإساءةِ الفهمِ من قِبلِ الكنيسةِ بوجهٍ عام، وليسَ انتهاءً بما هيَ الأرضُ وثيقة لكلِّ من مرّ عليها وعاشَ فوقَها، وتناسَلَ عنهُ: العمرانُ، والطّقوسُ، والكُتُبُ والموضةُ واللوحات، وقصصُ الحبِّ والخيبة.

يُذيّل النّصُّ المُتّكأُ على المخطوطاتِ والمُستلُّ من الأرشيفِ، بالتّواريخِ الدّقيقة، هناكَ محاولةٌ لهندسةِ هُويّةٍ جديدةٍ للقدس، تُراجعها هذهِ الرّوايةُ بالكشفِ والتّقصّي، كي لا يتكرر الشّعار المُكرّسُ عنّا، نحنُ سليلو المأساة الوطنيّة: أنّنا ننسى كثيراً، وما أسعدَهم بذاكرتنا الضّعيفة!

تقولُ ليلى: "مشاعر ثائرة رافضة تمنيت أن يعرفها الآخرون.. أصرخ بها ليسمعها من حولي.. أزيح صخرة جثمت على صدري، وليس أقرب من قرطاس وقلم" (الرواية: 240) إنَّ الآخرينَ دائِماً هم الآخرونَ، لكنّهم في القُدس كانوا إخوةَ التّرابِ، وأبناء المدينة.

 

يخامِرُنا الفرَحُ ونحنُ نقرأُ القدس، قُدسَ الأقداس، كأنّها تمنحُنا هاتِفها وعنوانها، كأنّها لم تبتعدْ يوماً في تاريخِ الحربِ والنّزوحِ والتّسويات، كما ابتعدت في الجُرفِ، ذلكَ أنَّ القدسَ برغمِ قربِها حِجاب، وأنّها -بلا أدنى شكٍّ- بلادُ العجائِب.