ليلى الأطرش.. أربعةُ عقودٍ في تأسيس الإعلام الثقافيّ العربيّ

 

محمود منير

كاتب وصحافي أردني

 

أطلّت ليلى الأطرش على الجمهور للمرة الأولى من خلال برنامج حول المرأة عرضه "تلفزيون قطر" مع انطلاقه سنةَ 1975، حيث أسهمت في تأسيس المحطّة الناشئة مع عددٍ من كبار المثقفين في العالم العربي من أمثال الناقديْن المصري رجاء النقاش والسوداني محمد إبراهيم الشوش.

إطلالةُ الكاتبة والروائيّة الراحلة (1948 – 2021) لاقت حينها استحساناً وتقديراً كبيرين، رغم أنّها أتت بمحض الصدفة بحسب تصريحاتها في مقابلات سابقة، إذ غادرت عمّان إلى الدوحة برفقة زوجها الشاعر والمترجم فايز الصياغ الذي انتقل مع إعلاميين أردنيين آخرين قدّموا خبراتهم لإنشاء وسائل الإعلام القطرية، حيث عُرض عليها العمل مذيعةً ومنتجةَ برامج، ولم تقبل إلا حين تأكّدت من قوّة حضورها وراء الشاشة.

الخطواتُ الأولى في رحلة الإعلام المرئيّ كانت جريئةً وجسورةً، لكنّها لم تُولد من فراغ، حيث بدأت الأطرش في أواخر ستينيات القرن الماضي عملها في الإذاعة الأردنية، وكذلك محررة وصحافية في جريدتي "الجهاد" و"الدستور" في الأردن، ونشرت سلسلة تحقيقات ناحجة؛ كان أهمها التحقيق الذي أضاءت فيه واقع سجن النساء، وتمّ على إثره اتخاذ قرار رسميّ بفصل المعتقلات السياسيات عن السجينات بأحكام جنائيّة.

وقبل ذلك كلّه، تشكّل وعي الطالبة ليلى وهي لا تزال في المرحلة الإعداديّة، تستمتع إلى حكايات أمها عن جدٍّ قاتل العثمانيين في نهاية عهدهم، وجدٍّ ثانٍ شارك في المظاهرات والإضرابات ضدّ الانتداب البريطاني، وتنكبّ على القراءة في مطالعات أدبية دفعتها إلى كتابة نصوصٍ قصصيّة وجدت طريقها إلى النشر في الصحافة الثقافيّة في تلك الفترة، كما وضعت رواية بعد ذلك بسنوات قليلة لكنّها لم تصدر في كتاب.

أدركت صاحبة رواية "مرافئ الوهم" (2005) منطق الكاميرا، وأنّه من خلال البحث الدؤوب والاطلاع الواسع يمكنها أن تحقّق بصمتها الخاصّة، وكان لها ذلك مع برنامجها الأول حول قضايا المرأة العربية، والذي أعدّته وقدّمته عبر الاستئناس بأراء الأطباء والتربويين والمتخصّصين النفسيين، وعرض أحدث الدراسات العلمية في مجالات عديدة تهمّ النساء. 

الإيمانُ برسالتها في الإعلام مثّل جزءاً من رؤيتها الأشمل للحياة منذ أن درست القانون كتخصّص جامعي، حيث امتلكت قناعةً راسخة بضرورة فتح النقاش حول ملفات حسّاسة عديدة منها الأحوال الشخصية للمرأة في العالم العربي، ونجحت في ذلك من خلال برنامجها "مع أو ضدّ" الذي أثار العديد من القضايا الاجتماعيّة الإشكاليّة، واعتمدته أقسام إعلام في جامعات مصريّة ولبنانية ضمن مقرّراتها الدراسية.

سعت الأطرش التي نالت درجتي البكالوريوس في اللغة العربية وفي القانون، والدبلوم في اللغة الفرنسية، إلى رسم صورة محدّدة لها في ذهن المشاهد العربي الذي أطلّت عليه بكلّ هدوء وجدّية، تعلم تماماً متى تبتسم ومتى تتحدّث ومتى تصمت، وكيف تتولّد الأسئلة من رحم الإجابات ولا تكون فقط معدّة من قبل، وتكتمل الصورة بتمّكنها من اللغة العربية، وبثقة واعتداد بنفسها يلازمهما دفء وترحيب بجميع ضيوفها.

"لقاءٌ.. على ضفاف النيل" هو عنوانُ البرنامج الثقافيّ الذي ارتبط باسمها لسنوات طويلة، ونالت حلقاته التي صّورت في مدن مصر شهرةً واسعة، مع طرحها تجارب المبدعين الراحلين للنقاش المعمّق وتتبعّها أمكنة عاشوها وشخصيات أثّروا وتأثروا بها، مثلما فعلت عند تناولها سيرة الراحليْن سيد درويش وعبد الحليم حافظ على سبيل المثال.

ومن مصر التي تحاورت فيها مع نجيب محفوظ وبليغ حمدي وأحمد فؤاد نجم، ومصطفى أمين وأنيس منصور، ومحمد عبد الوهاب وبليغ حمدي وكمال الطويل، وأسامة أنور عكاشة وصلاح أبو سيف ومحسنة توفيق، وفاتن حمامة ونور الشريف وعلي الحجار، وأحمد زكي وحسين فهمي وغيرهم، تنقّلت الأطرش بين عدد من البلدان العربية لتواصل لقاءاتها مع رموز الأدب والفن، حيث قابلت الموسيقي منصور الرحباني في بيروت، الذي اشترط أن لا تتجاوز المقابلة معه عشر دقائق، لكن حين تدفقت أسئلة محاورَته امتدّ اللقاء لحوالي الساعة، طالباً منها المزيد، وخصّصت حلقة ثانية للشاعر اللبناني بشارة الخوري (الأخطل الصغير).

وفي صنعاء، سجّلت حلقةً مميزة مع الشاعر اليمني عبد الله البردوني مفترشاً الأرض، تناول فيها أزمة الثقافة في بلاده التي تزخر بالمثقفين لكنها تفتقر للمؤسسات الثقافيّة، ما يجعل أدبها وفنها عاجزين عن الوصول إلى المتلقّي العربي، وسجّلت حلقة أخرى مع مواطنه الناقد عبد العزيز المقالح، إلى جانب لقاءاتها مع الروائي والمؤرخ عبد الكريم غلاب والفنان عبد الوهاب الدكالي من المغرب، والناقد واللغوي ناصر الدين الأسد، والفنان الأردني محمد وهيب.

مع محمود درويش، تأمّلت صاحبة رواية "صهيل المسافات" (2000) في حلقة بُثت عام 1983، مسائل ملحّة في لحظة شهدت انعطافة مهمة في حياة الشاعر الفلسطيني، سواء في التساؤل عن بنية قصيدته بوصفها امتداداً للتراث الشعريّ العربيّ، أو حول مهام شاعرٍ يعيش شعبه تحت الاحتلال، أو استجلاء معنى الهزيمة في الشعر العربيّ، أو خروجه من فلسطين المحتلة وأثره على كتابته.

وفي حلقتين منفصلتين، التقت الشاعر السوري نزار قباني على مجموعة من القضايا التي تتصل بعمق تجربته، وفي مقدمتها مفهومه للحرية كونها شرطاً أساسياً للكتابة والحياة، وحضور الوطن في قصيدته، وتلازم التحرّر الوطني والاجتماعي، ورؤيته لتطوّر الشعر العربي الحديث بعد منتصف القرن العشرين، واجتراح لغة شعريّة معاصرة.

ناقشت الأطرش إبداعاتِ ضيوفها من زاويةٍ تتجاوز البعد الأدبيّ والفنيّ فحسب، متنبّهة لدور الثقافة في بناء الهُوية العربيّة المشتركة، وفي تقوية الذاكرة والوجدان وغيرها من الروابط بين أبناء الوطن الواحد، من المحيط إلى الخليج، حيث لا يمكن فصل الثقافة عن الواقع، لكن من دون إنحياز أيديولوجيّ أو سياسيّ.

وركزّت في حوالي سبعين لقاءً تلفزيونيّاً على مهمة التنوير المناطة بالمثقف من أجل النهوض بمجتمعه نحو الحداثة والتحديث، ورغم ثقل الانكسارات والأزمات التي ألمّت بالعرب وشكّلت محوراً أساسيّاً لمعظم المواضيع التي تطرّقت إليها في برامجها، إلا أنّها ظلّت متمسكة بتفاؤلها بغدٍ عربيٍّ أفضل، انطلاقاً من مشروع فكريٍّ وثقافيٍّ يربط النخبة مع القاعدة الجماهيريّة.

وفي مراجعة تجربتها الإعلامية، أكّدت الأطرشُ في مقابلةٍ تلفزيونيّةٍ سابقة على أنّها وعت مبكراً ما تمنحه الصحافة الثقافيّة من فرصة لتقديم أفكارها ورؤاها، سواء في مقالاتها التي كتبتها في صحف أردنيّة وعربيّة، أو برامجها التي حملت مقارباتها وحصيلة معارفها تجاه العديد من القضايا والظواهر، وكانت حريصة كذلك على خلق تلك الصلة الوثيقة بين الثقافة وبين الناس، مؤمنة أنَّ الإبداع والفكر مصدرهما الاشتباك مع الحياة.

اتجهت بعد ذلك إلى تقديم برامج استقصائية وأفلام تسجيليّة، كان أبزرها برنامج "عرار شاعر ثائر" الذي أضاءت فيه سيرة الشاعر الأردني مصطفى وهبي التل "عرار" (1899 – 1949)، المرتبطة بأحداث سياسيّة واجتماعيّة كبرى عاشها الأردن والمنطقة العربية في مواجهته الاستعمار والظلم والفساد، وما تسبّب له من طرد من الوظيفة والسجن والنفي.

البرنامج الذي حاز الجائزة الفضيّة في "مهرجان دول الخليج العربية" بالمنامة، تناول انشغالاتِ الشاعر الذي قضى حياتَه القصيرة في حركة دائبة لا تعرف الهدوء والاستقرار، بين الوظيفة الإداريّة والمحاماة مُدافعاً عن حقوق المظلومين والفقراء، وبين البحث في مخطوطات موسى بن ميمون، وترجمة رباعيات عمر الخيام في محاولته لتفكيك الصورة النمطيّة عن فلسفته لدى العديد من الدارسين الذين وقفوا عند قشورها ولم يصلوا إلى جوهرها.

وقاربت الأطرشُ مكانة عرار في الثقافة الأردنيّة والعربيّة التي بدأت استعادتها منذ خمسينيات القرن الماضي، سواء في تجديده لعمود الشعر العربي، أو في استشرافه للخطر الصهيوني المحدق بفلسطين، أو تأسيس هُوية وطنيّة في مرحلة النضال من أجل الاستقلال كما تبرزه مقالاته وكتاباته النثرية، عبر محاورة الأكاديمي والناقد د. زياد الزعبي، والفنان توفيق النمري، وأقارب الشاعر: سلطي وملحم وبسرى وسالم حسن التل. 

بعد انغماسها في الصحافة والإعلام حوالي عقدين، أصدرت روايتها الأولى "وتشرق غرباً" عام 1988، التي تطرّقت إلى الحرب من منظورٍ نسائيٍّ وتأثيرها على العلاقات الأسريّة والاجتماعيّة. وبين لحظتين إبداعيتين، رأت الأطرشُ أنَّه لا يمكن فصل ليلى الروائيّة عن ليلى الإعلاميّة، ولا تتفوّق أيّ منهما على الأخرى، فهي لا تنكر حجم الانتشار والحضور اللذين حقّقهما لها التلفزيون، خلافاً للموقف الذي يكرّسه معظم الكتّاب الذين يعملون في الصحافة حول استنزاف الأخيرة لوقتهم وجهدهم وإبداعهم.

ودعت أكثر من مرة إلى ضرورة عدم ترفّع المشتغلين في الإعلام الثقافيّ عن الناس بظنّهم أنهم يقدّمون مادة تخصّ النخبة، بينما على الثقافة أن تكون جزءاً من الحياة اليوميّة لهم، وعلى الإعلاميّ الابتكار دائماً في مهنة تعتمد الصورة والاتصال بشكلٍ أساسيٍّ، من أجل الخروج من الجمود الذي هيمن على البرامج الثقافية لزمنٍ طويل.

آمنت ليلى الأطرش المولودة في بلدة "بيت ساحور" بقيمة العمل والالتزام بقواعد المهنة، والاجتهاد الدائم في المواقع المختلفة التي شغلتها كاتبةً ومحرّرة صحافيةً ومذيعةَ أخبار ومعدّةً ومقدّمةَ برامج، وأنَّ مقاومة الواقع وتغييره ممكنة إذا ما أثبت أنَّ اختلافه عن السائد جدير بالتقدير.