الجانب الاجتماعي في روايات ليلى الأطرش: السياق والمنطلقات

تحسين يقين

كاتب وناقد فلسطيني- القدس الشريف

 

حين بدأتُ كتابة هذا المقال، كنت ذاهبًا باتّجاه رصد الجانب الاجتماعي لدى الكاتبة، فما لبثت قليلًا أقرأ، وأفكّر، فوجدت نفسي أمام جانبٍ آخر، حيث أنَّ تعدّد الشيء، يعني في الجوهر أنّنا إزاء ظاهرة، ألا وهي المنطلقات النفسيّة في أعمال ليلى الأطرش السرديّة، الرواية تحديدا. ولن تقف رحلتي هنا، حيث مثلّت الخلفيّة السياسيّة التاريخيّة، المشتبكة أصلًا مع الشخصيات، بل والمؤثرة عليهم، جانبًا مهمًّا، لا يقلُّ أهمية عن تلك الجوانب. من هنا تمثل أعمال ليلى الأطرش فضاء أدبيًا تمازج فيها الاجتماعي والنفسيّ والعام، بمسحةٍ وجوديّة.  ولذلك ربما سيكون من الصعب عزل هذه الجوانب، وإن كنّا سنحاول هنا التركيز على البعد الاجتماعيّ. 

ليلى الأطرش، (1948 - 2021) روائيّةٌ تنتمي لضفتي نهر الأردن، وُلدت في "بيت ساحور" في الضفة الغربية، فيما قضت معظم سني حياتها في الضفة الشرقية؛ ففيها اكتمل قمرا الأردن وفلسطين، بشكل خاص، وإن مثّل مجتمع بلاد الشام واقعًا وحاضرًا لخصوصية تلك البلاد، فيما مثّل المجتمع العربيّ، كمجتمعٍ إنسانيّ مجال اهتمام الكاتبة، في الفكر الناقد والنقديّ، من خلال مقترحاتها الجماليّة، عبر الشكل السردي: الرواية تحديدًا.

أول ما تُذكر ليلى الأطرش، ستجد أنَّ هناك ربطًا ما بين كتاباتها والمجتمع، حيث رأى كثيرون أنَّ هناك تجليات تخصُّ موضوع المرأة، حيث شوهدت فيها مدافعةً عن المرأة من خلال إبراز معاناتها، ليس في الكتابة فقط، بل في المجالات الإعلاميّة والتلفزيونيّة، وصولًا إلى المسرح. (يحتاج تخصيص مقال منفصل).

 لقد دعت الأطرش إعلاميًّا إلى مناهضة العنف وتنميط المرأة، في الوقت الذي قرنت ذلك بتغيير الصورة النمطيّة عن العرب والمسلمين بين كُتّاب العالم، ولأجل ذلك لم يكن غريبًا أن اختارها تقريرُ التنمية الإنسانيّة العربيّة الرابع عن نهوض المرأة كواحدةٍ من الكاتبات ممن تركن أثرًا واضحًا في المجتمع، كما اختارتها مجلة "سيدتي" الصادرة بالإنجليزية عام 2008 كواحدةٍ من أنجح( 60 ) امرأة في العالم العربي. لذلك كانت وستظلُّ كتاباتُها وأعمالُها بشكل عام مجالًا للبحث الأدبيّ والفكريّ، فيما يخصّ المجتمعات في العالم خلال فترات التحوّلات.

خلود الأدب:

ورغم الجهد الإعلاميّ المميّز، إلا أنَّه سيظلّ للأدب، كوثيقةٍ جماليّة وتاريخيّة، الأهمية الكبرى، لمصداقيته خاصة في حالة ليلى الأطرش، وثانيًا، أنَّ الأفكار التي بثّتها الأطرش، إنَّما جاءت في ثوبٍ جماليٍّ غيرِ وعظيٍّ ولا بشكل مباشر، حيث ستؤثر رواياتها كمنجز إنسانيّ، في القراء، بشكل أكثر عمقًا.

من اللافت هنا أن نجد ليلى الأطرش تتّجه الى الرواية، في سن الأربعين، أي سن التأمل الناضج، لما مرت به من تجارب، وما عاشته من تحوّلات من الطفولة، فأول الشباب، فالثلاثينيات وصولًا إلى الأربعين، وما خبرته نفسيًّا واجتماعيًّا وسياسيًّا، في فضاء ضفتي نهر الأردن، كمكان، وما عايشته في الخمسينيات طفلةً وصولًا إلى نهاية الثمانينات، حين أصدرت أوّل رواية لها، "وتشرق غربًا". إنَّ اختيار عمر الكتابة، له دلالةٌ على التأمل العميق النقديّ للمجتمع، وعلى السيطرة على الجنس الأدبي واللغة، حيث بدأت روائيّةً محترفة من أوّل روايةٍ لها، لفتت إليها ليس النقادُ فحسب، بل المختصّون بقضايا المجتمع والمرأة.

سنتتبع هنا الملامح الاجتماعيّة في روايات ليلى الأطرش، وصولًا لما يمكن استخلاصه من هذا الاستعراض.

"وتشرق غربًا"، باكورتها الروائيّة، صدرت  عام 1988 حيث ثمة دلالات، منها مبادرة الشخصية النسويّة، في حضور إرادتها عبر التسلل إلى الوطن غربًا، أي إلى فلسطين المحتلة، والحب، وهنا يتمازج النفسيّ بالاجتماعيّ والوطنيّ في قالب سرديٍّ ممتع، عن إنسانةٍ من الطفولة الى الشباب، حيث يمتدُّ الفضاءُ مكانيًّا وزمانيًّا، ويظهر من خلال الحياة الاجتماعيّة.

"امرأة للفصول الخمسة": بعد ذلك بعامين أي عام 1990، صدرت هذه الرواية، وهنا لا نستطيع عزل تطورات الحياة السياسيّة، عن الحياة الاجتماعيّة، في ظل التحولات ما بعد بيروت 1982، وإن لم تُشر إلى ذلك، حيث بدايات الخلاص الفردي، والابتعاد المتسارع عن الخلاص الجمعيّ، من خلال التركيز على "نادية"، بأزماتها كامرأة، تتقاطع رمزيًّا ودلاليًّا، مع مواضيع الوطن والشتات واللجوء، حيث يبرز أثر المال بشكلٍ واضح على تحوّلات الأفراد، وأثر ذلك على نفسيّة المرأة، وسط حياة اجتماعيّة قلقة.

"ليلتان وظلّ امرأة": صدرت عام 1996 بعد 4 سنوات على روايتها الثانية، ما يعني توقع المزيد من النضج والنقد معًا، وهذا ما حدث هنا فعلًا، حيث راحت تُبحر الكاتبةُ في النفس لكشف الذات والمحيط، في واحدةٍ من أهم رواياتها، التي يمتزجُ فيها ما هو نفسيّ واجتماعيّ وعام ووطنيّ، حيث الإيحاء للخيارات، لا للجبر؛ ما يعني رؤية نقديّة نفسيًّا واجتماعيًّا. لم يكن الصراعُ فقط اجتماعيًّا ما بين الشقيقتين منى وآمال، بل كان في العمق نفسيًّا، امتد على ضفتي نهر الأردن. وأظنُّ أنَّ الكاتبة هنا قد تميزت بشكل عميق في عرض الشخصيات من الداخل، من حيث أنَّ الأثر النفسيّ كان هو الأقوى، تلاه الاجتماعيّ فالوطنيّ العام. ثمة رمزية هنا تدور حول النهر.

"صهيلُ المسافات": صدرت عام  2000 أي بعد 4 سنوات من روايتها السابقة، تم التركيز هنا على المجتمع الذي تشهده عن قرب، حيث تفرغت هنا أكثر للحياة الاجتماعيّة المتجليّة عبر الأدب القادم من الحياة أصلًا، حيث تمَّ التركيز على النساء العاملات، في سياق العلاقة بين الرجل- والمرأة. والملاحظ هنا هو تسارع النقد الاجتماعي لدى الكاتبة، والاقتراب أكثر من مواضيع شبه محرمة، بقصدية واضحة وإرادة وعي لديها، انتصارًا للمرأة في سياق نقدٍ عام للمجتمع. ويبدو أنَّ لذلك علاقة بتطوّر المجتمع الأردني وما جدَّ من تحوّلات اقتصاديّة اجتماعيّة. 

"مرافئ الوهم" 2005: تصاعد النقد الاجتماعي ليأخذ مداه، لكن هذه المرة، من خلال الاقتراب من فعل التنوير والفعل، بحيث نرى هنا وجود القوانين فيما يخصّ العمل والزواج، لكن جاء ذلك عبر حياة اجتماعيّة وإنسانيّة، انحازت تجاه المرأة والرجل، في سياق ظروف الصراعات والحروب. وهنا نحن إزاء هُوية المرأة لا وطنها الخاص، حيث أنَّ ما يجمع تلك النساء في الرواية أنّهن نساء أولًا، في مواجهة نظرة ذكورية نمطيّة للمرأة، وبالتالي ما حدث من نفور الشخصيتين "سلاف وشادن" من المجتمع ومن الذكور.

هنا، نستطيعُ ملاحظة المنظور الاجتماعيّ لدى الكاتبة أكثر من غيره، حيث راحت منحى سوسيولوجيّا، إن أمكننا استخدام هذا المصطلح، حيث يمكن هنا فهم الرواية من خلال ما يُسمّى "بعلاقات النوع الاجتماعي" في الجندر، التي تعني السيطرةَ والمصلحة.

"رغباتُ.. ذاك الخريف، أبناء الريح"، صدرت بعد عامين من "مرافئ الوهم"، أي عام 2012. وهنا نجدُ الكاتبةَ تختار فئاتٍ محددة مهمشة مثل العاملات في صالونات التجميل، والشباب المهاجرين لإثبات الذات خارج الوطن،  باتّجاه تعميق منظور النوع الاجتماعي (الجندر)، وكانت من الذكاء الروائيّ بأن قدّمت ذلك في سياقٍ اجتماعيٍّ وسياسيٍّ عام، تعصف به التحوّلات، وصولًا نحو التطرف.

لذلك، فإنَّها وهي تتحدثُ عن بعض فئات النوع الاجتماعيّ: المرأة، الرجل، الشباب، المهمشين، فإنَّها من النضج الذي جعلها تنظر بشكل متساوٍ وعادلٍ، حيث أنَّ الانحياز للمرأة، لا يعني معاداة الرجل، بل أنّها- أيضًا- تعرض لنساء ورجال وافدين إلى المجتمع، حيث تعرض لنموذج السودانيّة –مثلًا- القادمة بهدف تحقيق حلم الإنجاب. في الوقت الذي تنتقد عالم الخرافات الذي صاحب تحوّلات المجتمع، والانتقال من بعض التنوير المقبول إلى حالة اقتصاديّة تركت آثارها على الحياة الفكريّة أيضًا.

وهنا ثمة نضج اجتماعي في سياقٍ فكريٍّ واعٍ على أثر التحوّلات في حياة الأفراد، يبدو أنَّ الكاتبة مسكونة به، باتجاهات نقدٍ سياسيٍّ واقتصاديٍّ غير مباشر.

"ترانيم الغواية" 2015: نحتت الأطرش منحى روائيًّا يكشف الادعاءات الاجتماعيّة، مصورةً الحياةَ المرئيّة والمخفيّة لنخب مقدسيّة، موحية بنقد شديد للبطركية الدينيّة والاجتماعيّة، في موضوع المرأة المحظيّة بشكل خاص، لم تستثن الخوري، في سياق تصوير ليل القدس، ربما لتسقط ذلك على ما يحدث الآن أيضًا.

مستخلص:

ثمة خطٌّ فكريٌّ اجتماعيّ، ممتزج بمنطلقات نفسيّة، جاءت في سياق أثر التحوّلات في آخر أربعة عقود، نما فيها ليس فكر الكاتبة فقط، بل وزاد جرأة، وصولًا لكسر التابوهات، ووصولًا للماضي، كما في تعرية النخب التي عاشت مُتعَها، بعيدًا عن الفعل الحقيقيّ.

على جانبي النهر، وبالتركيز أكثر على المجتمع في عمّان المدينة الكبيرة، نجد الكاتبة تجد الفرصة للنقد الاجتماعي، في ظلّ تبلورٍ طبقيٍّ ما، وفي ظلّ سلفيّة ذكوريّة، متأثرة بنظام اقتصاديٍّ رأسماليّ، جعل الأفراد يبحثون عن خلاصهم الفرديّ.

تجلّى الوعيُّ بشكل حيويّ في الموضوع الاجتماعي، في تناوله بشكل متمازج ومتوازٍ مع الموضوع النفسيّ، في سياقات حكمٍ تقليديّ، وفي ظلّ حالة النصف الآخر المستلب في الضفة الغربية لنهر الأردن، وأثر غرب النهر على شرقيه، وبالعكس، كون العائلات متشظيّةً على الجانبين، ثم للتركيز أكثر على المجتمع العمّاني شرقي النهر كمجتمع يتبلور بأشكالٍ جديدة، وأفكارٍ، ومنطلقات.

كذلك الحال، كان الوعيُّ الفكريّ-الاجتماعيّ متطورًا ومتسارعًا، من المنظور السوسيولوجيّ الاجتماعيّ، بالاقتراب من منظورِ "الجندر"، والتعمق فيه في أكثر من رواية، حيث لم تعد قضية المرأة فقط بل قضية العدالة، التي تخصُّ الفئاتِ الأخرى بمن فيها الفئة المهمشة والفقيرة واللاجئة.

في الوقت الذي شعرنا بسهامٍ نقديّة نحو هذا الخلل حديثًا وقديمًا، الذي يتم في ظلّ تحوّلات اقتصاديّة، تشكل غربالا للبشر، ومدى بقاء القيم واستمراريتها.

مرةً ثالثة، نحن إزاء كاتبةٍ واعيةٍ على الذات والمجموع، وفيّةٍ للمرأة والرجل والفئات الأخرى، منتميةٍ لقضيّة وطنيّة وقوميّة شكّلت مؤثرًا مهمًا على سردياتها، محتفظةٍ بجذبنا نحو عالمها الروائي كمقترحٍ جماليّ أولًا، وليس كتنظيرٍ نسويٍّ أو جنسانيّ.

تفاوت حضورُ الجانب الاجتماعيّ، ما بين المنظور الاجتماعيّ العاديّ، وما بين ارتباطه الوثيق بالمنظور النفسيّ في قراءة الشخصيات، وبالمجمل فقد تمّ عرضُ كلِّ ذلك في فضاءٍ مكانيٍّ حول النهر بشكل عام، وفضاءٍ زمانيّ بعد عام 1967، ما عدا الرجوع إلى الماضي في آخرِ عملٍ لها، ألا وهو "ترانيم الغواية"، والذي لربما أرادت قياس الحاضر على الماضي.

وأخيرًا، نزعم أنَّ روايات ليلى الأطرش ستعيشُ طويلًا لا لفكرها الاجتماعيّ، بل لصدقها في عرض الشخصيات من داخلها، ومن وجودها في المجتمع.

وهكذا، فإنَّ المنظورَ السرديّ الإنسانيّ والجماليّ، شكّل رافعةً مهمةً للفكر الذي تطرحه مضامين الكاتبة، حيث أنّه مرشحٌ للاستمرار، لتظلَّ ليلى الأطرش مستمرةً في تأثيرها على المجتمع العربيّ، وليس فقط على جانبي النهر.