أدبُ الأوبئةِ.. واستشرافُ المسْتقبل

حسام حسني بدار (الأردن)

 

قبل زمنٍ طويلٍ من انتشار فيروس كورونا – 19  covid، تناول عددٌ من الأدباء موضوع الأوبئة في مؤلّفاتٍ تروي قصصًا إنسانيّة تراوحتْ بين الألفةِ والفراقِ ومشاعر من فقد حبيبه بالوباء، وتحدّثتْ كذلك عن المحاصرين في الحجْر الصحّي أو الخائفين من العدوى أو الفارّين من الموت.

ويُمكن للأدب أن يلعبَ دورًا مهمًّا في تشكيل استجاباتنا لوباء كوفيد - 19. كما يمكن أن يقدّم لنا رؤى مهمّة حول كيفية تعاملنا مع صدمة الأوبئة في الماضي لنتمّكن من البقاء على قيد الحياة في وضعٍ خارجٍ عن إرادتنا.

وبيّن أستاذُ الأدب "آرنولد وينستاين" Arnold Weinstein في تقريرٍ له نشرته المجلةُ الأميريكيّة "فورين أفيرز"  Foreign Affairsكيف يمكن للأدب أن يقدّم صورةً معيّنة عن الأوبئة وكيف تكون استجابة المجتمعات لها. ويمكن أن يساعدنا هذا في التعامل مع التحدّيات التي أوجدها الوضْع الوبائي الحالي. إضافة إلى ذلك، يمكن للأدب أن يوضّح لنا كيف أثّرت الأزمة على حياة الأفراد المصابين.

رواياتُ الطاعون

أغلبُ الكتبِ ذات المرجعيّة الأدبيّة الغربيّة تطرّقت إلى هذا النوع من القضايا، ففي الأدب القديم افتتح "هوميروس" ملحمته الشهيرة "الإلياذة" بطاعونٍ زار المعسكر اليونانيّ في طروادة لمعاقبة الإغريق على استعباد أجاممنون لبرسيس (ابنة ملك طروادة). وكان الطاعونُ والوباء كوارثَ متكرّرة إلى حدّ ما. هناك كذلك إشارات إلى الأوبئة في مسرحية "أوديب ملكًا" Oedipus the King للمسرحيّ اليونانيّ القديم سوفوكليس (المتوفّى عام 405 ق. م.) التي تتمحور بالأساس حول عدم اليقين، فلا يعلم أوديب أنّ الرجل العجوز الذي قتله هو والده، أو أنّ المرأة التي تتقاسم معه سريره هي والدته. وبينما تغرق مدينته طيبة في القحط وهلاك الماشية وموت الأطفال، ينظر إليه شعبه على أنَّه أملهم الوحيد. ولكن في نهاية المسرحية، يدرك أوديب أنَّه هو اللعنة في حدّ ذاتها، وأنّ معاصيه هي السبب وراء انتشار الطاعون.

في العصور الوسطى تمّ تصوير الوباء أيضًا في أعمالٍ لمؤلفين مثل الشاعر الإيطاليّ جيوفاني بوكاشيو في كتاب "الديكاميرون"  The Decameron(ومعناها الأيام العشرة)، ورواياته  المائة  التي تحدثت عن زمن الطاعون الأسود في القرن الرابع عشر – والتي تُروى من قِبَل مجموعةٍ مؤلفة من سبع شابّات وثلاثة شبّان على مدى عشرة أيام. والغريب أنّ في هذا الكتاب إشارات من نوعٍ ما إلى التباعد الاجتماعي والعزْل الذاتي، وإلى توضيحٍ للكيفية التي يمكن من خلالها النجاة من الوباء؛ وأيضًا "جيفري تشوسر" في كتابه "حكايات كانتربري" Canterbury Tales  The  التي توضّح السلوك البشري: الخوف من العدوى زاد من الخطايا - مثل الجشع والشهوة والفساد؛ والتي أدّت بشكل متناقض إلى العدوى، وبالتالي إلى كلّ من الأمور الأخلاقيّة والجسديّة والموت. (1)              

وهناك أشاراتٌ من التحليل الأدبيّ توضّح لنا أنَّ الموتَ الجماعيَّ يؤدي إلى استجاباتٍ سياسيّة معتادة، على غرار استخدام أشخاصٍ أو فئاتٍ معينة لتكون كبش فداء. وهذا ما يفسّر التسميات التي أُطلقت على أمراضٍ مثل مرض الزّهري الذي اجتاح أوروبا في أواخر القرن الخامس عشر، والذي كانتْ تُطلق عليه أسماء مثل "الجدري الفرنسي" في إنجلترا، و"داء جرمانيكوس" في باريس، و"مرض نابولي" في فلورنسا، وا"لمرض الصيني" في اليابان. وينطبق الأمر ذاته على جائحة كورونا التي أطلق عليها الأمريكيون وحلفاؤهم "فيروس الصين".

الحبُّ والموتُ

وأثناء تفشّي الأوبئة، يمكن أن يتسبّب التواصل (الذي يعتبر فعلًا إنسانيًّا أساسيًّا) في فنائنا. وبما أنّ انتشار فيروس كورونا المستجدّ أساسه التقارب بين الناس، فإنَّ الهدف من التدابير الوقائيّة - مثل التباعد الاجتماعي وإجراءات الإغلاق - هو الحدّ من وتيرة العدوى. ولا شك أن الكُتّاب سلطوا الضوء على مثل هذه المسائل في أعمالهم.

ففي روايته "يوميّات عام الطاعون"  A Journal of the Plague Year  الصادرة في 1722، يصف الكاتب الإنجليزي "دانييل ديفو" السلوك المهووس لسكان لندن في محاولة يائسة للنجاة من وباءٍ مُدمرٍ ظهر عام 1665، باعتماد طرقٍ لا تختلف عما نفعله حاليًّا: ارتداء القفازات وتنظيف كلّ شيءٍ بالخلّ ولعدم لمْس أيٍّ كان. 

كما سلّط ديفو الضوء على أهوال الحجْر الصحي، واصفًا وضع الأمهات الحريصات على حماية أطفالهنّ من خلال البحث بشكلٍ مستمرٍّ عن العلامات المميزة للمرض على أجسادهم، ولكنهنّ في نهاية المطاف يتسببن بإصابتهم بالمرض بسبب القرْب الجسديّ، ليكون الحبّ سببًا في وفاة عائلاتٍ بأكملها.

المنزلُ الكئيبُ

تطرق "وينستاين" في تقريره كذلك إلى رواية "المنزل الكئيب" Bleak House  لتشارلز ديكنز الصادرة عام 1853 حول مرض الجدريّ. في الرواية، يموت الفتى المتشرد "جو" بسبب هذا المرض، وتصاب "إستير" بالمرض نفسه ويتشوه وجهها بعد رعايتها للصبي  "جو".

ويلاحظ القارئ أنّ التباعد في حدّ ذاته ليس سوى وهْمٍ، إذْ أنّ الأحياء الفقيرة (سواء في الرّواية أو في لندن) تستمرّ في جلب الموت والأمراض.

من جهته، كان "ديكنز" يعلم أنَّ القذارة والعفن منتشرتان في كلِّ مكان ولا يمكن احتواؤهما، وتكشف حبكته القصصية دائما الروابط والصلات ذات الأبعاد السياسيّة: فالأرستقراطيون المتعجرفون الذين يعتقدون أنهم آمنون خلف جدران قصورهم، يعلمون في قرارة أنفسهم أنّه حتى بالنسبة لأصحاب المكانة الرفيعة، تظلّ المناعة مجرّد وهّم. وحتى لو تمّ إنقاذ الجسد، فلا يمكن حماية العقل والقلب من الأمراض التي يمكن أن تفتك بهما.

ووفقًا ل"وينستاين" فإنّ من المفيد، في أوقاتٍ عصيبةٍ كهذه التي نمرّ بها في هذه الأيام، حيث يُعتبر التواصل المباشر مع الآخرين خطيرًا، أنْ نلجأ إلى الأدب كطريقةٍ للتواصل، إذ يعلّمنا الأدب أننا لا نتمتّع بالحصانة ضد ّالآخرين، أو بالأحرى لا نريدها. (2)                    

وعلى حدّ تعبير فوكنر، يسلّط الأدب ضوءًا خاصًّا على "الرّواق المظلم لمسكننا الأرضي" - وبهذه الطريقة، يعطينا قراءةً لشؤوننا الحياتيّة التي من غير المحتمل أن يضاهيها أيّ اختبار علميّ.

المراجع:

1. موقع https:headstuff.org.

2. مجلّة "فورين أفيرز"، نوفمبر2020.