حصّالة

•فتحي الضمور

قاص أردني.         

 

الأمر مختلفٌ هذه المرّة، بحثتُ عنها في كلِّ زاويةٍ من زوايا البيت، ولم أجدْها. أمن المعقول أنّهم اكتشفوا أمر وعودي الكاذبة؟ حتى أخفوا "الحصّالة" عني في مكانٍ لا يعرفه أحدٌ غيرهم.

 

وكالعادة أقولُ لهم: "أريدُ أن أسدّد فاتورة الكهرباء، سأدفع ما تبقى من أجرة البيت، جريس صاحب الدكان طلب منّي اليوم تسديد الديون، مديرة المدرسة تهدّدني برسالة على الهاتف المخبول، بأنّها ستلجأ للقانون إنْ لم أسدّد ما تبقى من الأقساط المدرسيّة، وأريد كذلك أن أرخّص سيارتي، فهي كما تعلمون دون ترخيص منذ أكثر من عام، وسأشتري لكم ألعابًا كثيرة".

 

بدا لي أنّهم سئموا كلّ تلك المبرّرات، وأنّ هذه المرّة مختلفة تمامًا، فلقد حفظوا هذه الأسطوانة عن ظهر قلب، ويعرفون بأنّه من السهل عليّ أن أجد سببًا مقنعًا لفتح "الحصّالة" والاستيلاء على ما جمعوه من مالٍ يصل في أسوأ الأحوال إلى خمسمئة دينار.

 

بحثتُ عنها بطريقةٍ لا تشعرهم أنّ الأمر يعنيني، لكنْ دون جدوى. وبعد أن بدأ الضجر يسيطر عليّ، سألت ابنتي الصغيرة "ماريا"، فأجابتني وكلّ ما في عينيها يقول بأنّها تكذب عليّ؛ هذه الصغيرة الناعمة لا تعرف بالمثل الذي يقول "ابن بطني وبفهم ع رطني". كرّرت عليها السؤال نفسه، فأجابت بإصرار بأنّها لا تعرف مكانها أبدًا، بل حاولتْ بدهاء أن تقنعني بأنّني قد أكون أخذتها ونسيت ذلك.

 

أنا متأكّدٌ بأنّني لم أفعل ذلك، ولم آخذها، ومتأكّد أكثر بأنّ المبلغ الآن فيها "حرزان". كيف لي أن أتحايل على تلك الصغيرة؟

 

حاولت أنْ أستميلها ببعض الشوكلاتة والعصائر، ولا فائدة. وعدتها بأن نتقاسم المبلغ معًا، لكنْ دون جدوى. هذه المرّة لديهم إصرارٌ غريبٌ على إخفائها. والغريبُ في الأمر، أنّهم يعرفون بأنّها ستؤول إليّ في النهاية، فلماذا يخفونها عني؟!

 

هذه المرّة، الأمرُ مختلف حتّى معي، فكلّ ما أخشاه أنْ ينطبق عليّ ما حدث مع الذي كان يكذب في قصة مجيء الذئب ليأكل الخِراف. وأنا بأمسّ الحاجة إلى المبلغ الذي يجمعه أبنائي في الحصّالة. هذه المرّة إن لم أسدّد الأقساط المدرسيّة، سأنتهي في غضون أسبوع أو أقل إلى السجن، فلقد أخبرني بذلك محامي المدرسة التي لم يكمل فيها ابني سوى ثلاثة شهور، وأمهلني أسبوعًا لأتدبّر أمري، أو أنّه سيلجأ إلى القضاء. بعدها قمتُ بنقله إلى مدرسة حكوميّة.

بعد أن أخفقتُ في إقناع ابنتي "ماريا" لتدلّني على مكان الحصّالة، فكّرت في أكبرهم "يزن"، لعلّه يتآمر معي ويدلني على مكانها، فهو أكثرهم حبًّا لي. 

-  لا تخفي على أبيك ما يحبّه، مهما كان.

ضحك بخبث، ورد:

- "بابا شكلك صاير تنسى كتير، آخر مرة أخدتها وحكيتلنا إنك رحت دفعت أقساط المدرسة اللي صارلك شهور مش دافعها".

 جوابه الماكر، وجواب أخته معًا، يعني "اثنين حكولك راسك مش عليك اتحسّسه". لقد أحسست من جوابهما بأنّني على أبواب مرض "الزهايمر" وبدأتُ أشكّ أنّني فعلت ما يدّعيان. 

 

"زيد" الابن الأوسط، الرزين، الأمين، الصادق، الهادئ، "ألبتشينو" البيت، يراقب ما يحدث بهدوء، لم يتدخل بشيء، وكأنّ الأمرَ لا يعنيه. ماذا عليّ أن أفعل الآن مع هذا الذي يكِنُّ لي في أعماقه حبًّا لا يوصف؟!. نظرتُ إليه عن بعد، لعلّ شيئًا من ملامحه يقول لي: أنا من سيدّلك على مكانها. لكنّ حركة فمه مع كسرة الطرف الأيمن من شفته السفلى، أغلقت عليّ باب سؤاله عن "الحصّالة"، وكأنّ هذه الحركة إيماءة أكثر خبثاً من أخويه، بأنّه لا يعرف شيئًا عنها.

 

لا شيء يسعفني الآن، سوى أن لا أصدّق هذا الدهاء البرموديّ، فانتظرتهم حتى يغطّوا في نوم عميق، كي أبحث عنها في كلّ زوايا البيت وأركانه، فالأمر في غاية الخطورة، وإن لم أتدبر أمري غدًا، سيأتيني أحدُ أفراد الأمن ويقتادني (مخفورًا) من باب البيت، ليزجّ بي خلف القضبان، فلمن أتركُهم؟!.

 

على غير عادتهم، لم يناموا مبكرًا هذه الليلة، عمدتُ إلى ترتيب فراشهم، ليغريهم بالنوم في ليلة باردة لا دفء فيها سوى ذلك الحبّ بيننا. حتى بالحبّ أخفقتُ في جلب النُّعاس إليهم! ولم يتطلب الأمر مني بعد ذلك أكثر من ملعقة "أليرفين" كبيرة لكلّ واحد منهم، جعلتهم بعد بضع دقائق يستسلمون للنوم.

 

نظرتُ إليهم وهم نائمون، قبّلتُ أحلامهم البريئة العالقة في أعينهم، ثمّ جلستُ دقيقةً واحدة، أفكّر في كلّ الاحتمالات الممكنة، وغير الممكنة لإيجاد "الحصّالة". اقترب الفجر، ولم أترك مكانًا في البيت، إلا وبحثت عنها فيه. 

 

أخيرًا، استسلمتُ، لأسبابٍ عديدة، منها أن أكون فعلًا قد أخذتها مؤخرًا، ومنها أنّهم يخفونها خارج البيت، لأنّهم هذه المرة لن يتنازلوا عن شراء ملابس العيد، الذي سيأتي بعد أيامٍ قليلة.

 

استسلمت لكلّ أسباب اختفائها، ألقيتُ بكلّ تعبي على الأريكة، وبدأت أفكّر مقهورًا في ثلاثة أطفال، لا أحد لهم سواي.

 

 وقفتُ أمام الشباك أنظر إلى خيوط الشمس التي لم تبشّر إلا بيوم بائس وحزين. بعد قليل دبّت الحياة في الخارج، بدأت أسمع أصوات السيارات والذاهبين إلى أعمالهم، نظرتُ إلى أبنائي وكأنّني أودّعهم، قبل أن يستيقظوا للذهاب إلى مدارسهم.

 

تسللت بعطفٍ إلى فراش ابنتي لأضع رأسها على ساعدي، فلطالما كانت تحبّ أن أفعل ذلك قبل أن تنام كلّ ليلة. رفعت رأسي بهدوء؛ حتى لا أفسد عليها مذاقَ النوم وطعمَ الأحلام البريئة، لكنّ شيئًا صلبًا كان تحت وسادتها، وبخفّة اللصوص وجدت "الحصّالة" تحتها. لم تسعني الدنيا من الفرح، وكأنّني عثرتُ على "كنز سليمان"، وبحركة أكثر خفّة أخذتُها، دون أن أُحدث أيّ حركة تستفزّ أمنياتهم المخبوءة في تلك الحصّالة.

 

أحضرتُ سكينًا وفتحتُها، كانت مليئةً بالنقود الورقيّة، لكنّ ورقةً بيضاءَ صغيرةً كانت في الحصّالة، فتحتها قبل أن أعدَّ النقود، وبخطِ الصغيرة "ماريا" الجميل، مكتوب فيها وباللون الأحمر: "بابا احنا بنحبّك وكل اللي بالحصّالة عشان تروح تدفع أقساط المدرسة، وترخص السيارة وتسد ديونك لجريس، بس بشرط إنك تصحينا إذا لقيت الحصّالة، عشان نروح معك"!